مفتتـح

مفتتـح

أكثر تراث البشرية لم يقدم لنا المرأة إلا ثرثاراََ يمتد لسانها في دائرة تحيط الكرة الأرضية كلها.. إنه حكم عام جائرا كان أم عادلا.. لكن الحق فيه أن كلام المرأة غالبا يذهب جفاء، رغم أن : ( أكثر النساء شواعر فمنهن المكثرة ومنهن المقلّة، وبعض أشعارهن وصل إلينا، وكثير منه ضاع، أو اغتالته يد الزمان، بشهادة أشعر الشعراء كأبي تمام وأبي نواس، حين ذكر كل منهما أنه حفظ وروى لمجموعة من الشواعر وقد ورد في شعر أبي نواس بعض الأبيات التي اقتبسها من شواعر عصر صدر الإسلام )(1).. وأما ما يقول الرجل فيمكث في الأرض، لأن ما يقوله غالبا أيضا شعر ونثر لا تملك الذاكرة البشرية إلا أن تعيه وتحفظه وتستظهره.
ومما مكث لنا وبقي وصمة عار في جبين المرأة - بالحق أو الباطل - هجاء الأزواج لزوجاتهم.. ربما كان قلة حيلة رجالية.. ربما كان ضعفا منهم عن المواجهة ورد الصفعة بالصفعة.. ربما كان ظلما فادحا وجناية ظاهرة لكنه في كل حال أصبح قبضة من فن الشعر قد ترضي ناساًوتغضب آخرين.. قد تعبر عن الهم البشري وتقلبات النفوس، وقد لا تعبر. لكن هذا ليس مبررا لسقوط ظاهرة هجاء الزوجات من صفحة الدراسة النقدية علي مدي تاريخها حسب علمنا. فلم تكن هناك أية معالجة مستقلة لهذه الإبداعات: البيئة التي أنتجتها، كبري وصغري .. دوافعها النفسية.. وقعها علي ما قيلت فيه.. بنائها الفني ووزنها بين الإبداع الشعري.. من نبغ فيها ومن مر عليها مرورا عابراً وعلاقة النفس الشاعرة بالنفس الشتامة البذيئة وخاصة إذا كانت هذه البذاءة منصبة علي من هن لباس للرجال والرجال لباس لهن.من الدائن.. ومن المدين ؟ كيف واجهت الزوجة المهجوة عنف الهاجي، وسائل وانماط الشتم هنا.. كيف تختلف أو تتفق مع الهجاء العام؟!. تساؤلات كثيرة معلنة ومكنونة.. ساقت إلي خوص تجربة صعبة بالتعرض لهذا الموضوع. فالمراجع فيه كالإبرة في كومة قش. ونحن لا نحصر لكننا نريد أن نجمع ما نستطيع من هذه البذاءة المضيئة وهذا الجمال القبيح.والهجاء المقصود من دراستنا هذه، هجاء بالمعني الاصطلاحي وليس الهجاء بالمعني اللغوي المعجمي أي القراءة، ففي هذا المعني يقول معجم تهذيب اللغة ( قال ابن هانئ: قال أبو زيد : الهجاء : القراءة. قال : وقلت لرجل من قيس : أتقرأ من القرآن شيئا  فقال : والله ما أهجو منه حرفاً : يريد : ما أقرأ منه حرفاً. قال : ورويت قصيدة فما أهجو اليوم منها بيتين : أي ما أروي)(2). إن ما نقصده هو ما يذكره هذا المعجم حين يقول : (فلانة تهجو صحبة زوجها : أي تذمه وتشكو من صحبته.. وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال : " اللهم إن فلان هجاني فهجوه اللهم مكان ما هجاني "  ومعني قوله " اهجو اللهم : أي جازيه علي هجائه أياى جزاء هجائه،وهذا قوله عز وجل )وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها((3) وذاك هجو القول المطلق، أما ما نقصد إليه فهو معني بعينيه، إنه الهجاء الخالد، المبدع الذي يصب نار البذاءة والسخط والحمق والحقد في آنية من الماس،هو كما قال الليث : (الوقيعة في الاشعار)(4) قال ( ابن سيده: وهاجيته.. هجوته وهجاني. وهم يتهاجون : يهجو بعضهم بعضا، وبينهم أهجَّوةٌ وأهجيَّتهُ ومهاجاةٌ يتهاجونَ بها ؛ وقال الجعدي يهجو ليلي الاخيلية :
دعي عنكِ تَهجاءِ الرجالِ وأقبلي علي أذلغيِّ يملاُ اسْتَـكِ فيشلا
الأذلغي :منسوب إلي رجل من بني عبادة بن عقيل، رهط ليلي الأخيلية، وكان نكاحاً، ويقال : ذكر أذلعي إذا مذي ) (5).
والظاهرة اللافتة للنظر أنه مع كثرة الغزل والتشبيب والوصف للنساء سمينات ونحيفات، قصيرات وهيفاوات،شقرواتوسمروات، عفيفات وشبقات.. تقل موروثات الغزل في الزوجات أو المدح لهن بصفة عامة، علي الرغم من قوله تعالي : ) هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن ( (6) وقول النبي صلي  الله عليه وسلم " ( النساء شقائق الرجال لهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال درجة)(7). ويبدو أن الرجل يغرم بالمرأة ما دامت خارج طوعه وملكيته فيري كل امرأة ليست زوج له هي الغاية ولا غاية بعدها، ولذا يقول بين المقفع: (إعلم أن من أوقع الأمور في الدين وانهكها للجسد واتلفها للمال وأقتلها للعقل وأزراها للمروءة وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار الغرام بالنساء، ومن البلاء علي المغرم بهن أنه لا ينفك يأجم ما عنده وتطمح عيناه إلي ما ليس عنده منهن)(8).
ولا يظن أحد أن نهر الغزل المتدفق في المرأة - غير الزوجة- يتبعه نهر آخر أو حتي رافد من هجاء الزوجات، بل لا نكاد نجمع من هذا الهجو سوي قطرات شحيحة تظمئ أكثر مما تروي.. فكيف نفسر هذه الحالة؛ أن الزوجة لا هي متغزل فيها كسائر النساء، إلا من غير زوجها، ولا هي مذمومة من أزواجها ما دامت غير جديرة  بالمديح.. الرأي هنا قد يكون خشية الرجل من زوجته وهي خشية تاريخية بدأت منذ سقراط ولم تنتهي بعد بأصغر شاعر معاصر لنا : وقد يكون ستر بعض الرجال علي قبح زوجاتهم ظاهراً وجوهراً مخافة أن يعيروا بسوء اختيارهم أو لأن هذه الزوجة هي أم الابناء الذين سيعيرون بها إذا ما قدح فيها الزوج : الأب : الشاعر وقد يكون وازعا من دين يمنع التشهير بمن تشارك الانسان سكنه ولو كانت حية رقطاء تنكمش في الشتاء وتزدهر وتنتصب إذا دفئت.من بين كل هذه المحاذير والموانع إلتقطنا هذه القطرات في هجاء الزوجات وصنفناها علي قدر ما تيسر لنا وما نحن بمحسوبين علي الهاجين، كما أننا لسنا ممن لهن سياط البذاءة من زوج شاعر وقد سعينا إلي أن نتجرد من عاطفة الانتماء الجنسي للمرأة الزوجة لننتمي لموضعية البحث العلمي ونقف علي ظاهرة ممتعه ومقلقة وتسعد ناساً وتسوء آخرين.
                                يناير 2006
                          هــالــة فهمـــي