الهجاء..أهوطبيعة عربية ؟!

الهجاء..أهوطبيعة عربية ؟!
    امتلك العربي القديم أحد أسلحة الدمار الشامل لكنه دمار للأفراد وتحديدا لكرامتهم وعزة نفوسهم وكبريائهم انه سلاح الهجاء ولا نظننا مبالغين ونحن نراه هكذا فقد رأه العربي القديم نفسه سلاحاً لا يقاوم إيلاما وإيذاءاً حتي إن أحد الاعراب تحدث عن قوم (وقال: أولئك سخلت أقفائهم بالهجاء)(9) ثم استطرد ( ودبغت وجوههم باللؤم، لباسهم في الدنيا الملامة وزادهم إلي الآخرة الندامة)(10) فلتنظر وقع الهجو على أقفية هؤلاء. إن من يصفع على قفاه ينحط إلي الدرك الأسفل من الذلة ويصير مثلا في الحطة فما بالنا لو أن هذا القفا قد سلخ سلخاً وكأن الهجاء ماء النار صبت عليه. هذه هي رؤية العربي التي تتواصل بما يترتب علي الهجاء وما يتصل به فبعد أن وقع الهجاء علي القوم هذا الوقع، إذا بالوجوه دبغت باللؤم بما يعني من الالتصاق الدائم والمتعمد لهذا اللؤم وإذا بالدنيا كلها تلومه، تقرعه، توبخه ثم يصحبهم هذا الحال إلي الآخرة نادمين. فأي ضياع يمكن أن يصيب الأنسان مترتبا علي الهجاء.
فلما يفعل العربي بنفسه هذه الفعلة الشنعاء التي تصمه دنيا وأخري، إنها سمات العربي النافر من كل قيد المتمرد علي كل سلطة ولو سلطة الذات الطامع في كل مجد، الطامح إلى كل سلطة وإذا كانت هذه طبيعة كل عربي فرد، فإن العلاقة الدائمة لابد أن تكون التصادم الدائم والغلبة للسيف البتار واللسان البتار كذلك، وهنا تبرز بطولة فنون  القول والهجاء بخاصة (فإذا اهتاج أسرع إلي السيف واحتكم إليه وبادر شاعره إلي اللسان فسلطه في شعر فيه الحماسة وفيه الهجاء المقذع، يصور العدو هزيلا والمهاجم ضعيفا ويبعث في نسبة الضعف، وفي خلقة الصغار، وفي شكله الزراية ) (11).
ويبدو للمتابع لهذه القضية أن العربي القديم مدفوع إلي الهجاء دفعاً (وقد سأل رجل من ثقيف محمد بن مناذر: (ما بال هجائك أكثر من مدحك؟ قال: ذلك مما أغراني به قومك واضطرني إليه لؤمك. وقال أبو عمرو بن العلاء : خذه لجرير : إنك لعفيف الفرج كثير الصدقة فلما تسب الناس ؟! قال : يبدأوني ثم لا أغفر لهم)(12).
إن العربي ليلقي بنفسه إلى التهلكة أو يكاد، فمن من العقلاء ينازل ثوراً؟. مَنْ من المتدبرين يهاجم الحكام والملوك وبيدهم حينذاك إنتزاع الروح وسلخ الجلود، هذا ما وقع فعلا بينما نري بعضهم يتصدى ببذئ القول لزعماء العرب وحكامهم وخلفائهم، فيوما ما ( أتي عبد الله بن فَضَاَلة بن شَرِيك الوَالبي ثم الأسدي من بني أسد بن خُزيمة.. عبد الله بن الزُبير، فقال له: نَفدِت نفقتي ونقبت راحلتي. قال أحضرها، فأحضرها. فقال: أقبل بها، أدبر بها، ففعل. فقال ارَقعْها بسِبتٍ واخصفها بُهلب وأنجد بها يبرد خفها وسر البردين تصح. فقال بن فضالة : إني أتيتك مُستحملا ولم آتك مستوصفا فلعن الله ناقة حملتني إليك ! قال الزبير : إن وراكبها.
فانصرف عنه ابن فضاله وقال :
 أقول لغلمتي  شُدُّوا رِكابي
أُجاوِز بَطْنَ مكةَ في سَوَادِ

فمالي حين أَقْطع ذات عِرْقِ
إلي ابن الكاهِلَّية من معاد
سيُبْعدُ بَيننـا نَصُّ المَطايا
وتَعليقُ الأداَوَي والمَزَادِ
وكـلُّ مُعَبَّـدِِ قـد أعْلمتْـه
مَنَا سِمُهنَ طُلاَّعَ الِّنجادِ
أرَي الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبِ
نُكدْنَ ولا أُمَيَّة بالبلادِ
من الأَعياص أوَ من أل حربِ
أغَرَّ كغُرَّة الفرس الجواد (13)




إنها محاجة بين طرفين غير متكافئين أحدهما حاكم آمر ناهِ في الحجاز يناوئ بني  أمية علي الخلافة والآخر سلاحه وبضاعته الشعر، لا توازن في القوة ولا تساوي في الرؤوس وعلي الرغم من ذلك يلعن الناقة التي حملته إلي عبد الله بن الزبير ولم يغمد عبد الله سيفه في عنقه بل رد الشتم بالشتم فقط، ثم إن ابن فضاله زاد عليه بعد أن أنصرف بمثل هذه الأبيات التي تُشهر به وبأمه وعيره بها، إنه بالاحكام المنطقية خطر مستطير كان يمكن أن يحدق بابن فضالة.. فهل ارتدع !؟
لم يرتدع كذلك غيره.. فهاهو ذا أبو قطيفة يهجوا الخليفة عبد الملك بن مروان بما هو أقذع يقول مفتخراً بنفسه ذاماً عبد الملك.
أنـا بن مُعيْـطٍ حين أُنْمَى
لأَكرَم ضئضئ وأعز جِيلِ
وأُنْمَى للعقائل مـن قُصَيّ
ومْخزُم. فما أنا بالضَئيلِ
وأرْوَي من كُرِيْزِ قد نمتني
وأرْوَي الخيرِ بنتُ أبي عَقيلِ
كِلاَ الحَّيْين من هـذا وهذا
لعمُر أبيك في الشرف الطويلِ
فَعـدِّدْ مَثلهنّ أبـا ذُبَـابٍ
لَيعْلـَمَ مـا تقولُ ذوو العقولِ
فما الزَّرْقاءُ لي أمَّا فأخزَي
ولاليَ في الأزارِقِ مِنْ سبيلِ(14)
وكأننا بأبي قطيفة يضع نفسه في قعر بئر عميقة مع سبق الاصرار فإذا به يواصل شتمه لعبد الملك حين علم أن عبد الملك ينتقصه، فقال:
نُبِّئتُ أن ابـن الَعَملَّس عابني
ومن ذا من الناس الَبرئُ المسلَّمُ
من أنتْمُ مَنْ انتم خبرونا من انتم
فقـد جَعُلـتْ أشياء تبدو وُتكْتمَ !
فبلغ ذلك عبد الملك فقال: ماظننت أنّا نُجْهَلَ، والله لولا رعايتى لحرمته لألحقته بما يعلم، ولقطَّعْتُ جلده بالسياط)(15).
هل من استفذاذ يرقى الى حد أن يسأل شاعر؛ واحد من الرعية عبد الملك بن مروان؛ من أنتم ؟! وهم من يعرفهم العجم قبل العرب !! لقد كانت الإجابة المنتظرة هى تقطيع جلده بالسياط , لكن الرجل القوى لم يفعل وإن آذاة الشعر كما لم تؤذ السياط الجلد فكأن قوة خفية تدفع أبا قطيفة للهجاء وقوة خفية أخرى تمنع عبد الملك من الانتقام.. إن شئت فقل إنها قوة العدل أو الحلم أو الحكمة وما أعظم حكمة عبد الملك وأوفر حلمه وإلا لم أحتمل.(16)
للمرأة صوت وإذا كان لها صوت " في صغائر الأمور وكبائرها فكيف لا يكون لها صوت في فن كهذا ؟ ! فها هي ذي "بكارة الهلالية" (وكانت من نساء العرب الموصوفات بالشجاعة والإقدام والفصاحة والشعر والنثر والخطابة، أستأذنت علي معاوية فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة فدخلت عليه وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها وضعفت قوتها، ترعش بين خادمين لها فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال : كيف أنت يا خالة ؟ قالت : بخير يا أمير المؤمنين. قال: غيرك الدهر. قالت : كذلك هو ذو غير من عاش كبر، ومن مات قبر. قال عمرو بن العاص هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا ذيد دونك فاستشر من دارنا      سيفا حساما في التراب دفينا
     قد كنت أذخـره لكـل عظيمة         فاليوم أبرزه الزمان مصونا
قال مروان :وهي القائلة يا أمير المؤمنين:
أتـري ابـن هنـد للخلافة مالكا     هيهات ذاك وان أراد بعيد
 مَنْتك نفسـك فـي الخلاء ضلالة أغراك عمرو للشقا وسعيد
 فـارجع بأنكـد طائر بنجوسهـا     لاقت عليـا أسعد وسعود
وقال سعيد بن العاص : هي والله القائلة :
قد كنت أطمع أن أموت ولا أري      فـوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولـــت           حتي رأيت من الزمان عجائبا  
في كل يوم لا يزال خطيبهم           بين الجمـوع لآل أحمد عائبا
ثـم سكتـوا فقالـت: يا معاوية كلامك أعشى بصري وقصر حجتي. أنا والله قائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر. فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك. فقالت: الآن فلا)(17).
وكانت بكارة شاعرة فصيحة، بليغة، منطقية، متكلمة، جزلة الألفاظ، صادقة التعبير في أشعارها.. تتدفق القوة والعنف من أبياتها كما اتصفت المرأة العربية حين تدافع عن هدف أو تُخلص لشئ فهي لا تتنكر لقول ولا تُكذب فعلاً، وقد جاء رفض بكارة لعطاء معاوية من وجهة نظرنا شكلاً من أشكال القوة.. فهي لم تخف منه حين هجت بني أمية في أبياتها وحرضت المقاتلين في معركة صفين على قتال معاوية.. تحثهم في أشعارها على حمل السيوف، وهاهي لم تنكر قولها طمعاً في عطايا.. ولم ترهبهم حينما ردد الحاضرون على مسامع معاوية ما قالته وهي في مجد الشباب وقوته.. وعندما قابل معاوية هجاءها بالضحك.. لم يكن موقفه هذا منها لكونها امرأة، لا يصح البطش بها وإلا عير بفعلته تلك وإنما كان إعجاباً بقوتها وفصاحتها.. فهاهي تقول له مؤكدة أنها من قالت هذا الهجاء.. بل هناك من القول ما لا يعلمه ولم يردده رجاله.. فقابل معاوية قولها هذا بعفوه وذكائه ودهائه الذي اشتهر بهما.. بل سألها أن تطلب ما تريد.. لكنها رفضت في حسم وأنفه.
هذا هو موقف جداتنا من الشاعرات العربيات، تناطح الملوك والأمراء دون خوف أو قهر.. ولا تقف قوتها إلي حد رد الحجة بالحجة بل أيضاً هي تهجو وتذم بأبياتٍ قد تدفع بالمهجو إلي فقد السيطرة وربما ينفلت منه زمام نفسه ويأمر بقطع رقبتها أو بتر لسانها الهاجي فهي هنا لا تهجو زوجاً أو راعي أغنام بسيط إنما تقدح وتهزأ من بني أمية ولهم ما لهم من السطوة والقوة والبطش.. وكم حصدوا رقاباً تطاولت عليهم.. ولعل هذا يدلل على مكانة المرأة العربية واحترامها.. وقوة بيانها وقدرتها على الهجاء والنقد لمثالب وعيوب عدوها.. وصياغة وجهة النظر أو غيظها في قصائد هجاء ومن تملك القدرة على الذم تمتلك القدرة على غيره كما ملكت زمام باقي أغراض الشعر الأخرى كالحس القومي، والرثاء، الشوق، والحنين، والحكمة، وأشعار الطفولة، والاستسقاء، وأشعار الترقيص التي كانت تتغنى فيها للأطفال وتحكي عن بطولات وأمجاد أقوامهم.
وقد أضفنا الهجاء لأنه جنس من أجناس الشعر العربي وقتها وقد تفوقت فيه المرأة الشاعرة وإن لم تستعمله للتربح كالشعراء الرجال.. ولكنها كانت تعبر عن مشاعرها وتعكس واقع اجتماعي وثقافي وسياسي للمرأة وكانت صادقة في ذلك والدليل أننا لم نسمع عن شاعرة ولجت قصور الملوك لتتكسب من شعرها.. إذن هي تعبر عن شعورها وانفعالها الخاص بها وبيئتها.. عكس الشاعر الذي قد يهجو مقابل عطية.. أو حاجة له.
نعود فنقول أننا لو اعتبرنا أن هجاء أبي قطيفة للمأمون كان لمنع الأخير عطاء كان يحلم به الشاعر ولم يحصل عليه، وهجاء بكارة الهلالية لمعاوية وبني أمية هو موقف عداء وكراهية.. فهذا أيضاً موقف مبرر إذ أن لكل حاكم مؤيدوه ورافضوه.. ولكن أن يصل الحد لأن يهجو الشاعر أقرب الناس إليه، من حملته في رحمها وكانت لها قداسة في كل دين وملة، بل في كل زمان ومكان.. وهاهو الحطيئة أو ابن ميادة يمتد هجاؤه ليطول أمه، بل هو يؤهلها لهجاء الآخرين رداً على هجائه لهم.. ليقينه من طبيعته الشاذة ونفسه المتمردة فقد (كان ابن ميادة عريضا طالباً مهاجاة الشعراء ومسابَّة الناس، وكان يضرب بيده على جنب أمه ويقول :
إعرنزمى مَّياد للقوافي             واستسمعيهنَّ ولا تخافي
               ستجدين ابنك ذا قِذَافِ   
أي أني سأهجو الناس فيهجونك، فاستعدي لذلك).(18)
والحطيئة لم يكتف بتعريفها لهجاء الآخرين لها رداً على هجائه وهو فحل من فحول الشعراء وفصائحهم.. أدرك الجاهلية والإسلام.. فأسلم ثم ارتد.. ولم يَسلم أحد منه يقول في أمه:
جزاكِ اللهُ شراً من عجوزٍ        ولقّاكِ العُقُوقَ من البنينِ
 فقد مُلِّكت أمرَ بنيك حتى        تركتِهِمُ أدقَّ من الطَّحينِ
 فإن تُخْلَيْ وأمَركِ لا تصولي     بمشّتدٍ قُـواه ولا مَتيـن
 لسانُك مبردُ لا خيرَ فيه             ودرَّكِ دُّر جازبةٍ دَهينِ.

وقال يهجو أمه أيضاً :
تنحَّي فأجلسـي مني بعيداً
 أراح الله منـكِ العالمينا
أغِربالاً إذا استودعت سراً
 وكانـوناً على المتحدثينا
حياتِك ما علمتُ حياةُ سوءٍ
وموتُكِ قد يسرُّ الصالحينا(19)
هو لم يبالي بوصف أمه بالنميمة وبأنها ثقيلة الظل على الناس بل هي أيضاً قليلة اللبن.. لا خير فيها.. ولم تقف بذاءته عند هذا الحد ليشهر بأمه.. فهاهو يهجو ذاته في يوم هاجت نفسه الأمارة بالسوء إلا الهجو ولم يمر به إنسان يصب عليه هذه البذاءة وهذا الشر:
(كان الحطيئة بذياً هجاء، فالتمس ذات يوم إنساناً يهجوه فلم يجد، وضاق عليه ذلك فأنشأ يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلماً          بشرِّ فما أدرى لمن أنا قائلُهْ
وجعل يدهور هذا البيت في أشداقه ولا يرى إنساناً، إذ اطَّلع في حوض ماء فرأى وجهه، فقال:
أرى لي وجهاً شوَّه الله خَلْقَهُ       فُقبح من وجهٍ وقُبح حَامِلُه (20)
كان العربي معتزاً بنفسه ونسبه وقبيلته وقد تقوم الحروب دفاعاً عن هذا الشرف إذا تطاولت إليه الألسنة هجواً وذماً.. ولذا كان سلاح الهجاء في ذلك الوقت أفتك من القنبلة النووية في العصور الحديثة وتأثيرها الشديد لانتقال الأشعار بين القبائل ومعايرتهم المهجو بها وكانوا أهل بلاغة وفصاحة وللكلمة فعل كحد السيف يقطع ويبتر خاصة إذا كانت تندد بمكارمهم وأخلاقهم ونسائهم.. وقد قلت هذه الحدة قليلاً في العصر الإسلامي.. لأن الإسلام هذب الأخلاق وردع المبارزات القولية في الذم والهجاء.. بل أشاع روح جديدة من التسامح والعفو.. وهاهو يعود في العصر العباسي والأندلسي بعد أن شاع الترف والبذخ والنعيم وتفشت الدسائس والنميمة.. لم يتوقف استشراء فنون الهجاء في أي عصر من عصور الأدب العربي لكن البعض يرى أنه (أخذ طابعاً آخر فقد اتسع هذا الفن تأثراً بالترف والنعيم، وضعف النخوة القبلية، والشهامة العربية وكان الإماء رائدات الفحش والمجون والتحلل مثل عنان، وقمر، وعريب، وأخذت الأندلس هذا الطابع واصطبغت بهذه الصبغة وبخاصة في أواخر أيام الدولة الأندلسية وتفرق الأندلسيين أبدى سبأ.
ومن نماذج الهجاء في هذا العصر قول ولادة بنت المستكفي تهجو ابن زيدون :
ولقبت المسدس وهو نعت
تفارقك الحياة ولا تفارق
 فلـوطي ومأبـون وزان
 وديـوث وقواد وسارق) (21)
وقد تستفز المرأة بالهجاء.. مما يثير قريحتها بهجاء مضاد قد يكون أبشع مما قيل فيها.. والمرأة لا تنسى الإساءة أفلا تردها إذن ؟
(لما هجا الأعمى المخزومي نزهون الغرناطية بقوله:
على وجه نزهون من الحسن مسخة
وتحت الثياب العار لو كان بادياً
قواصـد نزهـون تـوارك غيرها
ومن قصد البحر استقل السواقيا





فأجابته بقولها :
إ إن كان ما قلت حقا              
من نقض عهد كريم
فصار ذكرى ذميماً                             
 يعـزي إلـي كل لوم
وصـرت أقبح شئ
علي صورة المخزومي(22)
وقد لا يكون ذم المرأة باللفظ فقط وإنما قد تشعر المرأة بالإهانة إذا وقع تصرف لا يروق لها فتشعر بطعنة في أنوثتها.. مثلاً كما حدث مع أم العلا حينما خطبها رجل أشيب تقول :
الشيـب لا يخدع فيه الصبا
بحيلـة فآسمع إلي نصيحتي
فلا تكن أخدع من في الورى
تبيت في الجهل كما تضحى(23)
هي هنا لم ترفضه وتكتفي بذلك لكنها اعتبرت مجرد خطبته لها نوع من الخداع والجهل فكيف لأشيب مثله صبية مثلها، ولعل الهجاء في هذا العصر قد سار على سنن الجاهلية من حيث الذم الحسي وإن قل عند المرأة وخاصة المرأة المسلمة.. فهذا نوع من الفنون تأباه طبيعة المرأة التي تميل إلي الرقة والدعة بالإضافة لما أحدثه الإسلام في النفس بتعاليمه من تهذب يتفق والنفس السوية غير المتمردة.. ومع هذا فقد قالته قلة قليلة من الشاعرات ولعل السبب أن إبداع المرأة الذي قيل شفاهي لم يُسجل كما حظى إبداع الرجل بالتسجيل ولهذا تناثر قولها في الهواء كانفعالاتها.
(ونلاحظ أن الشاعرة العربية قد شاركت في باب الهجاء ولكن في حدود ضيقة ولعل ذلك يرجع أيضاً إلي طبيعة المرأة وما جبلت عليه من رقة ونعومة ورهافة حس وذوق، الأمر الذي يبعدها عن الدخول في المصادمات والمشاحنات تلك الأمور التي تأنفها طبيعتها، ويمجها ذوقها الرفيع)(24). ولعلنا نزعم بأن المرأة وإن كانت قليلة الهجو إلا أنها كانت ملهمة له تحرض عليه الشعراء بأفعالها أحياناً.. أو بردها الطعنة بالطعنة.. إلا أنها في معظم الأحيان مستقبل لا مرسل ولعلنا نخلص إلي أن الهجاء كان له مكانة لا تقل عن النسيب أو التشيب بل هو قرين للفخر فإذا ما أفتخر الشاعر بنفسه وقبيلته كان عليه أن يحط من قدر غريمه أو عدوه وقد يكون الهجاء لأسباب شخصية فردية وغالباً ما يكون السبب اقتصادياً أو هجاء قبيلة وفخر بأخرى أو هجاء قومي مثل هجاء العرب للفرس أو هجاء الشعوبيين الذين كانوا يشعرون بعنصرية العرب عليهم فكانوا يفخرون عليهم ويهجونهم أو هجاء مذهبي حيث كان الشاعر يسلط من لدى دولة بعينها أو خليفة لهجاء معارضيه.. وقد رفض جرير في موقف مشابه هجو آل البيت في علي بناء على رغبة الخليفة الأموي وأرشده إلي الأخطل لأنه كان نصرانياً.
هناك تفسير آخر مؤيد لرأينا يسوقه د. محمد بدر معبدي في كتابه "أشعار النساء في الجاهلية والإسلام" يقول: (ومرد هذا الخلق عند أكثر الباحثين إلي طبيعة الأرض من فقر واجداب وضيق الأفق بالسكان، فينتعش البؤس وتشتد الحاجة، وتخمد الشجاعة والوفاء والكرم، ويذم الجبن والخيانة والبخل وتنتحل الأنساب، ويدور الشاعر الهاجي حول هذه الموضوعات ليصيب مقتلاً من خصومه ويسرع إلي القوافي والصور فيصب غضبه على الولاة والحكام والأمراء والملوك، ويتناول المذاهب والأديان والعقائد وينتصر لفريق على فريق، وكأنه في حزب سياسي، أو في فرقة دينية أو في دعوة سياسية واجتماعية، كصحافة اليوم. وكان ذلك كله ديوان في الهجاء كبير، برع فيه الشعراء في القول والبلاغة والفصاحة، فعرضوا للأنساب، والأحساب والأعراض والأخلاق فصورها في خيال صادق أو كاذب لا يبالون بما يعترض سبيلهم من سمعة تتحطم أو كرامة تشهم أو أرومة تهدم، أو نسب ينهار أو عرض يفضح.
فقد كان الهدف النصر على الخصم ليس غير، يتناولونه من نواحيه فيبرزونه في شكل مخز، ويضعونه موضع السخرية والحطة والضعة، فإذا بلغوا من ذلك ما يريدون انتصر هجاؤهم وظهروا على عدوهم واشتهروا بين الأقوام وارتفعوا إلي ذروة الأدب)(25) 
ثم يضيف في موضع آخر رأي للدكتور محمد سامي الدهان في كتابه "الهجاء"(26) يقول: (والمهم أن الهجاء فن من فنون الأدب الرفيعة في الأدب العربي قد يعين على تصوير الحياة عند الأفراد وفي المجتمع وقد يساعد على تأريخ الحياة العربية حين يصدق الشاعر، ويحذر المؤرخ في بحثه حين يريد أن يعلم ما كان العربي يستحسن ويستقبح، وما كان يذم ويقدح، وأن يتبين ما كان العرب والمسلمون يجدونه من مثالب ومآخذ عند الشعب وعند الحكام، وهو على ذلك يحوي ألواحاً من الصور تضاف إلي الآداب الإنسانية في القديم والحديث، فُتغنى متحف الهجاء في الأدب العالمي، وتكسبه روعة لا تقل عن روعة الآداب الأخرى إن لم تزد عليها وتبزها وتسبقها إلي ميادين النبوغ والعبقرية والإلهام)(27)
رؤية شاملة لهذا الواقع الأدبي والحياتي المتلاطم توقفنا على مؤشرات عدة منها.. أن الهجاء عنصر حاضر في الحروب والخصومات الفردية والعلاقات الزوجية وعلاقة الابن بالأم وعلاقة الحاكم بالمحكوم وفي حالات الزواج والطلاق والحب.. فهل من حياة أخرى غير هذه أنها حلقة تحيط بالإنسان منذ النوم حتى اليقظة ومنذ الميلاد حتى الرحيل فكأن هذا الهجاء ركن من أركان الحياة ولا نقول أنه الحياة نفسها بالنسبة للعربي، في البوادي والحضر، في الجاهلية والإسلام.. في الشرق والغرب بين النساء والرجال.. أي أنه يمتد في الزمان والمكان وفي سائر مستويات العقل العربي ومساحات التفكير فهل من المستغرب أن نتساءل عما إذا كان الهجاء جزءاً من الطبيعة العربية ؟!.