النكد...صناعة زوجية
لنكد الزوجات ألوان وملابسات وطقوس لا تكاد تحصى، وإن قعد لها كل مقعد الشاعر حزين عمر، فتتبع منها ما استطاع ممسكا بذيوله وأفلت منه أكثر ربما مما أمسك من هذه الذيول !!
ولنعرج قبل الشاعرحزين عمر إلى بعض الجذور النكدية الواردة نثرات لدى أجدادنا، فهاهوذا ابن عبد ربه يقول: ( نكح رجل امرأة من العرب،فلما اهتداها رأت ريع داره أحسن ريع،وشمل عياله أجمع شمل،فقالت : أما ةالله لئن بقيت لهم لأشتتن أمرهم،وقالت فى ذلك:
أرى نارا سأجعلها إرينا وأترك أهلها شتى عزِينا.
فلما أنتهى ذلك إلى زوجها طلقها،وقال فى ذلك :
ألا قالت هَدِى بنى عَدىّ أرى ناراً سأجعلها إرينا
فبينى قبل أن تَلحَىْ عصانا ويُصبح أهلُنا شَّتى عِرينا.) (66)
إنه النكد بلا مبر، هو ليس حسدا ولا حقدا لأن المرأة أصبحت طرفا فى هذه الحياة الرغدةالتى يوفرها لها الزوج، كان عليها أن تزيد الثراء ثراءً أو أن تتمسك بالحياد على الأقل لكنها بدون مبرر سعت لتدمير الأسرة وتخريب الديار كأنها شيطان رجيم سُلط على هذه الأسرة الآمنة.. والطلاق ليس عقابا كافيا لهذه النكدة لكنه المتاح للرجل.
وقد يداوى النكد الزوجى بنكد مثله أى الزوج بزوج، فإذا ما أنحرف طبع المرأة إلىالكيد لزوجها فالعلاج هو أنه لا يفل النساء إلا النساء، وهذه هى الواقعة التى ساقها أبو الفرج الأصفهانى حينما قال: (كان محمد بن بشير الخارجى من أهل المدينة،وكانت له بنت عم سَرِبة جميلة، قد خطبها غير واحد من سروات قريش، فلم ترضه. فقال لأبيه: زوجنيها. فقال له كيف أزوجكها وقد رد عمك عنها أشراف قريش. فذهب إلى عمه فخطبها إليه، فوعده بذلك، وقرب منه. فمضى محمد إلى أبيه فأخبره، فقال له: ما أراه يفعل.ثم عاوده فزوجه إياها.. فغضبت الجارية، وقالت له: خطبنى إليك أشراف قريش فرددتهم، وزوجتنى هذا الغلام الفقير ؟ فقال لها: هو ابن عمك، وأولى الناس بك، فلما بنى بها جعلت تستخف به وتستخدمه، وتبعثه فى غنمها مرة،وإلىنخلها أخرى. فلما رأى ذلك من فعلهاقال شعراً، ثم خلا فى بيت يترنم به ويُسمعها.. وهو:
تثاقلتِ أن كُنْتُ ابنَ عمّ نكحِتِه
فملتِ وقديُشْفَى ذوو الرأى بالعَدْلِ
فإنك إلا تتركى بعض ما أرى
تُنازِعْك أخرى كالقرينة فى الجبلِ
تَلُزُّك ما استطاعت إذا كان قَسْمُه
اكقَسْمِك حَقا فى التِّلاد وفى البعْل
متى تحمليها منك يوما لحالة
فتتبعَها تحمِلك منها على مِثل
قال: فصلحت، ولم ير منها بعد ما سمعت شيئا يكرهه.)(67)
المرأة هنا لم يشفع لها الدم والقرابة لترق وتلين تجاه الزوج الذى لم يرنكب جرما سوى الأقتران بها.. وساقه الذكاءإلى هذه الحيلة المعلنة شعراً، وقد أنطلت على الزوجة النكدة فاستقامت له، وكنا نلمح لهذه الحالة النكدية مبرراً تجسد فى " ميلة بخت" هذه المرأة وإنحدار مستواها الأجتماعى من خيرة رجال قريش، إلى رجل شبه معدم وإن كان من ذويها. وتلمسنا لسبب ظاهرلهذه الحالة لا يعنى توافر أسباب فى فى كل حالات النكد الأخرى، فهناك من يرى أن الزوجة : ( نكدة بالفطرة والوراثة وبدون مناسبة.. لا لأن زوجتك فى البيت تفتش عن ذرات النكد وترقعها قطعة قطعة حتى تضحى دانة مدفع تتفجر فى وجهك صباح مساء.. فهذا أمر مفروغ منه ولا يحتاج إلى مواساة.. بل لأن النساء قد تنكد وتنوح وتهدر الدمع مدراراً، ولا نعرف لماذا؟! ربما كانت الصنعة التى نبغت فيها المرأة دون الكائنات جميعاً هى "سلعة النكد" تصنعها سائلة وغازية ومعلبة ومجففة ودائرية ومستطيلة ومقعرة المهم ألا تدع ثغرة واحدة فى جسد الرجل لا يخترقها نكدها.. ولا تسألنى عن المبرر)(68)
هذا حكم يبدو لى مشوبا بتحيز ضد الزوجات بصفة خاصة والمرأة بعامة فهل تلخصت أدوار الزوجة فى حياة الرجل فى أداء هذه المهمة غير المقدسة من وجهة نظر حزين عمر؟! الأمر عنده لا يقف عند هذا الحد أنه كما أشرنا فى بدء هذا الفصل يملك منظومة من العداء للحياة الزوجية ومن رصد أنماط النكد الزوجى فأصبح لديه " مشروع شعرى" فى هذه القضية، لم نرى مثيلا له فى تراثنا الشعرى ولا إبداعنا الحديث.
لقد لفت نظرى هذا التعويل الشديد على هذه الجزئية الدقيقة من علاقة الزوج بزوجته فرأيت أن أتتبعها، فإذا بها مرصودة فى عدة دواوين عبر عدة قصائد وقد تفنن فيها الشاعر بطرائق قد تستفز المرأة وقد تقلبها ضده وقد تدفعها لتساؤل عن مكنونات نفس هذا الشاعر وهذهالسوداوية الفظيعة تجاه المرأة الزوجة، إنه حالة تستحق البحث والتوقف عندها كثيرا لنصل إلى أسباب هذا الموقف.. وقبل أن نحقق هذا الغرض البحثى فلنستعرض أولا ما أنتج من " النكديات" فى عمل له صنفه هو على أنه "نثرية" يقول حزين عمر:
(هذه لحظة بألف عام:
السماء داعبتنى بومضة من صمتها اللألاء
قطرة من نسمة عذرية تعلقت بسمعى
ولم تدع بمقلتى قشة من اللغط
والرافعى –صاحبى – رفيق جلستى ومكتبى
أزاح باليدين طربوشهُ
فتبدو صلعة تموجت بطرفها سنابل الفِكَرْ
مكذباً من وصفوه بالصم،
تفتحت أذناه والتقطت
رذاذَ صمتها !!
بمفردى الآن وحدى
أوشوش القصيده
وأختبى فى موجها
وأرتمى فى مقطع لمقطع على ضفاف قصة
وأشرب الموسيقى
بمفردى الآن أبدو،
كأنى أنا منذ عام ونصف !!
وزوجتى فى غفوها
تنغص الملائكة !!!)(69)
حالة وصفية للاستغراق الإنسانى العميق المغلف بالصمت الكونى " السماء داعبتنى بومضة من صمتها اللألاء" وبالصمت فى مستواه الآخر : الصمت الفردى الذى جعله يستدعى مصطفى صادق الرافعى المصاب بالصمم حتى لا يكون هناك أى منغص عبر أى صوت، وهناك صمت ثالث يمثله الأستغراق فى الوحدة "بمفردى الأن وحدى أوشوش القصيده" فحينما استدعى الشاعر من يؤنسه من الشر استدعى الرافعى، وحينما استدعى من الأشياء استدعى القصيدة، وهو لا يتحدث معها إنما يوشوشها فقط. ولاعيب فى نمط آخر من الصمت " الصمت المعلن" إنه الموسيقى والتى لا يبدو لها لهاث وإنما هى شئ من العذوبة لا يُسمع بل يرشف " وأشرب الموسيقى ".
هذه حالة إنسانية عميقة فما دخل الزوجة بها إذن ؟! أراد الشاعر أن يقلب المائدة على رأس المتلقى وأن ينقلنا من النقيض إلى النقيض فيختم قطعته النثرية بسطرين أثنين يحملان المفارقةالعنيفة والمرة فى سخريتها:
"وزوجتى فى غفوها
تنغص الملائكة !! "
لقد أصبحت الزوجة نكدية بعيدة المدى أو هى كونية النكد بحيث لم يهرب منها حتى الملائكة، فما بالنا بالبشر.. أنها تمارس مهامها حتى فى النوم ويالها من مهمة يعجز عنها البشر.. تكدر الحياة على الملائكة الذين لا يتكدرون وهى فى حالة النوم.. فما بالنا بالصحو ليتخيل القارىء زوجة كهذه فى حالة يقظتها وليتخيل كذلك فعلتها بالرجل:الزوج إذا كانت الملائكة نفسها منغصة بها. وفى قصيدة علاقات زوجية التى كتبها عام 1999 يقول :
(ياه........
أصبحت الآن وحيدا
أصبحت وحيدا جدا
أفرجت الزوجة عن أنفاسى
عن بصَّاتى المكبوتةِ تحت النظارةِ
تحت يديها
أطلقت الزوجة – حالا – للقلب
حقوقَ النبضِ، حقوقَ الرفرفةِ،
حقوقَ الحزنِ المطلقِ
دون مقاطعةً وضجيجً
فأكاد أفيقُ
أبصُّ حوالىَّ وفىَّ
فأصدقُ أنى الآن أنا :
هاهى ذى قبعتى المتسخةُ
قابعةٌ فوق الرأسِ
تهشُّ سهامَ الناسِ
تصون دماغى من أىِِّ طنينٍ بشرىٍّ
من كل جراثيم الجهل المنثورةِ
فى الآفاقِ وفى أنفسهم
هاهى ذى النظارةُ
نفسُ النظارةِ
مذ كنتُ شقيا فى الأرضِ
حتى أضحيتُ شقاءً فى الأرض يدبُّ
ويدى، إحداها تمسك قلماً
قلماً؟!
أتذكره..
من خمسة أعوام كنت نسيتُه !!
أو نسىَ القلمُ – صديقى السابقُ –
تنميلة إبهامى
حين أخطُّ "الميلاد غدا"
وحلمتُ بساعةِ رؤيا
ليست تدنو – بعد– لكل المنتظرين
أمام الغيطان
وتحت السنط
وجنب بحيرة قارونَ
وفى قلبِ النيران بحلوانَ
أو التبين
تلك الساعةُ ليست تدنو
كانت حتى العام السبعين
قريبا من أحلام المنتظرينَ
الآن نأت
تنأى
حتى عن مرمى الأحلام
ومسقط رأسِ طموحاتِ العطشى
وأنا العطشان الأكبر
رَدَّ القلم النبض لإبهامى
وأنا الآن أصدِّق نفسى أنى وحدى
وأخطُّ مسودة قصيدة
فيم يكتب مثلى
حين يردُّ إليه الشعرُ الروحَ
ويُسْلِمُهُ قياد الكلماتِ
فتشتجرُ الكلمات على مأوى
تقطن فيه
يقيها بَرْدَ الصمتِ
يهشُّ الوحدة
عن لفظً يعشقُ لفظة
يتزوجها....
ماذا قلتُ؟!
زواجٌ ؟!
الزوجةُ تقف الآن على رأسى
تُمعن فيما بدرَ من الذنب على الأوراقِ
تفلِّى كلَّ خطيئات الفضفضةِ
تصنِّفُ خطراتِ اللحظة:
هذا تهويمٌ فى نهد امرأةً،
هذى بصبصةٌ للسيقان !!
ياه....
الزوجة تقف الآن على رأسى
تلاصدُ أعماقى..
قد جفَّ الحبرُ
بحلقِ القلم
تُسَّاقطُ قبعةُ الرأسِ
والنظارةُ تُظلِمُ.. تظلمْ
إنى قد أذنبتُ.. وأعتذرُ !!! ) (70)
انه يلج لب القضية مباشرة وإن كان يحيلنا منذ السطر الأول "ياه...." إلى حالة سابقة تحتمل تأويلات كثيرة يفهم من الصمت حولها ومما قيل بعدها فى السطور التالية بأنها حالة حصار من الزوجة له حتى أصبح حلم الشاعر أن يكون وحيدا مع ذاته لحظات قليلة لأن الحصار عليه محكم، أنها لا تحاصره فى دائرة أو نصف دائرة فقط بل تحاصر كل حقوقه الإنسانية والبشرية، حقه فى التنفس والنبض، حق عينيه فى النظر، حق قلبه فى الحزن، هى حالة الدكتاتورية والقمع والتى لا تستطيع أعتى معتقلات العالم أن تمارسها.
أول مفاجأة يعيشها الشاعر بعد إطلاق صراحه أنه هو نفسه.. مازال كما أدرك ذاته هو فيتلمس مكوناته المادية.. القبعة والنظارة والقلم وفى إطار الهروب الكبير يرجع إلى سنوات ما قبل الأزمة : الزواج حينما كان حراً، شاعراَ، حينما كتب ديوانه "اليلاد غداً"(71). إنها مفارقة يقيمها بطلها هو نفسه بين ذاك الشاعر الحر الطليق المرفرف فى سماوات العشق، وبين هذا الإنسان المقموع المتطلع للحرية والحقوقالبشية الأولى. لحظة الهروب أو الأنفلات السريعة هذه أعادته إلى كنهه الإبداعى وليس له لإلا أن يحقق الهويةالشعرية، بعد أن حقق الحرية الشخصية فى خلال برهة أو برهات، وراح يفكر فى أن يكتب قصيدة ويحاور نفسه حول مضمونها.. هنا تسرب الشك مرة أخرى بطريقة غير مباشرة، حول مضمونها.. هنا يتسرب الشك مرة أخرى بطريقة غير مباشرة، انه لايبادر بتلقى دفقات الشعر على الورق مباشرة، بل يحاور نفسه ويضع ممهدات ويريد فتح أبواب للكتابة، وفى كل هذا لا يصل إلى نتيجة فلا يكتب قصيدة لأن التفكير فى هذا المنتج الغائب عنه منذ سنين قاده إلى فكرة العشق:عشق الكلمات مذكرها لمؤنثها وسعى كل منهما إلى تكوين عش الزوجية.. وعند هذه اللحظة يفيق من غفوته الحرة مع نفسه، فقد أطل الزواج عليه.. واستدعت مفردة الزواج زوجته الرابضة فى مكان ما قريبمنه إلى درجة أنها فجأة تقف على رأسه، وفجأة تطرح قيودها على رقبته وعقله وتبدأ المحاسبة على تفكيره.
لا نضيف جديداً إذا قلنا انه قد استكان لحالة العبودية هذه إلى حد أنه يعتذر عما لا أعتذار عنه.. لا نضيف جديداً.. فليعد القارئ مرة أخرى إلى المقطع الأخير من هذه القصيدة الفلتة التى لامثيل لها فى تاريخ الإبداع الشعرى وتعد علامة قد لا يستطيع الشاعر نفسه أن يقيم مثلها بهذا الشكل وبهذا التوجه وبهذا البناء؛ الذى يجمع بين البسمة والدمعة.. السخرية المرة والضحكة العريضة، العمق والبساطة.. الذاتية والعمومية، مع صور شعرية متراصة فى عبقرية كأنها جدارية خالدة تمثل قصة عذاب سيحكيها الزمان.. فلا نرانا أمام هذه القصيدة إلا مندهشين مذهولين لاعنين كل زوجات العالم النكديات ونستعيذ بالله أن نكون واحدة منهن.
وللحققيقة الموضوعية نرى حزين عمر قد أنجز عملا آخر هو (تربية البوم): نوع فريد من السخرية والموقف الحاد والرؤى الكاشفة تجاه هذه العلاقة بين الرجل والمرأة لنقرأ القصيدة التى يقول فيها :
(البومة أنثى
لا أعلم أن هناك رجالا بوماً
أو أن هنالك نوعاً منهن يُذَكَّرْ
للبومة فلسفةٌ فوق حدود الإدراك البشرى
فلسفةٌ فى أن تنعق غبطة
حين يُهَدَّمُ سقفٌ فوق رؤوس الناسِ
المحشوةِ أحلاماً وخرافاتٍ ونعيماً وهمياً
تلتصق عظام الناس بطين الأرض
ويُرْوَى شجرُ الصبارِ، على دمهم يُزْهِرْ
كنتُ أرى البومَ يحومَ
وينعقُ فى غبطةِ سيدةٍ تخلو بعشيقٍ بعد غيابٍ
فيبلُّ جفافَ ثناياها، تعشوشب
البوم يحومُ، وينحطُّ بكلِّ خرائبَ
دَمّرها الهجرُ، أو الثأرُ، أو الدهرُ
وينعق فى استدعاء جميع الأقوامِ
من البوم الرابض فى قلب خرائبَ
قد جَفَّ أنينُ مجاليها
البومُ عدو الخضرةِ والترعة و النخلةِ
والنسمة فى قيظ الصيفِ
يحبُّ اللونَ الأسودَ،والليلَ
ولونَ نحيب الجرحى والأيتامِ
ويطربُ إن سقط العصفورُ بطلقِ رصاص
أو مزَّق ثعبانٌ سِتر يمامة
أو رفرفَ كتكوتٌ بجناحيه،
يكاد يطيرُ
فينقضُّ عليه
***
البومُ القبحُ شبيهٌ بهْ
القبحُ لفافاتٌ منه
خنزيرٌ أصغرُ يسَّاقطُ من عينيه
وخلايا الكُر~هِ الأبلهِ رابضةٌ
تحت جناحيه
***
لا أدرى لِمَ هذا البوم تبوَّم
لِمَ خلقَ الله البومَ وأرسله فى كل صباحٍ
ومساءٍ : نعتاً ودمامهْ
قنبلةً من حقدٍ طائر..
تتوالدْ..
كبنى صهيون ؟!
الناسُ " زمان" فى بلدى كانت صنفينْ :
الصنفُ نساءٌ لا تنقبض لنعق البوم
ولا ينتفض لها شعره،
و الصنفُ رجالٌ أعداءُ البوم
يتغير مجرى اليوم جميعاً
لونعق البومُ على رأسه
اليوم تغبرَّ واستعصى
الرجلُ إذا شاف الموت
يرفرف فى جنبيه
يحصبها بالنعلِ فلا تهرب غير ثوانٍ
ثم تعود إلى رأس الرجل وتنعقْ
فرجال القرية كلهمُ أعداء البوم
لكن المرأة.. لا !!
قد كنت اسأل نفسى:
لِمَ يجرى كلُّ رجال القريةِ
خلف البومةِ رجماً بنعالهمو- حفاةً؟!
***
لم أعلم فلسفة البوم
ولم أعلم ينبوعَ الكُرْهِ
لكل البوم بقلب رجالٍ ما أطيبهم !!
الآن تعلمتُ سراديب البومِ
وأجناسَهْ،
فلسفةَ البوم وكُره رجال القرية له
أصبحتُ أربى بومة
مثل جميع المنخدعين لتوهمو، أو منذ سنين
مَن تركوا أزمان صباهم
وتطلَّع قبلهموللعُشِّ – كما تحكى الأفلام العربية
لعن الله الأفلام العربيةَ:
من يطبخها، من يأكلها !!
قيل : العش يغرد بالعصفورة انقى
فاختار الجدُ عصيفيره
من بين عصافير ضياء منعشة للرغبة
تهفو النفس لقضمات منها
ورجال مدينتنا – لعن الله رجال مدينتنا
القاهرة الحبلى –
قالوا إن الله سيرسل للعصفورة رزقا
أنشئ عُشك لا تخنع
وأقمت العش : صفائح من قلبى
وشبابيك من النبضات
وباباً للأيام القادمة يمد جناحيه
ويعزف نايا
يحكى عنى وأنا وحدى
بين خرائب نفسى أسعى
لا يطرق قلبى غير الحزن الرابض فيه
وأصلى للجسد المبهم
فى أحضان أمرأةٍ، وأمرأتين، وعشرين
أتذوقُ.. لاطعمَ
وأشرب.. لا رِىَّ
وأسرح فى النهدين.. أتوه بهمى
لا أرجع إلا ويداى معمرتان
بنهدين جديدين
التهمُ.. وجوعى يتوحش
***
ورجال مدينتنا – لعن الله رجال مدينتنا
القاهرة الحبلى !!
قالوا كلٌّمنا رَبَّى عصفورة
والعش الآن عمارٌ، ويزقزق
ربَّيتُ العصفورة يوما أو يومين أثنين
وكأن التغريدُ عصافيراً فعلا
وجناحاها نمنمتان من الرقةِ
عيناها طاعاتٌ لا تعرف: لا
فى اليوم الثالث للعصفورة
أضحت بومه
وبمنقارٍ يلتقط يوميا
عاماً من عمرى
حلماً من عمرى
وقصيدةَ شعرٍ كنت عزفتُ
كليمات منها
***
أصبحت الأن ككل رجال مدينتنا
تربيةُ البوم لنا قَدَرٌ
وتعلم إدراكى بعد دخول السردابِ الأبدىِّ المظلمْ
لِمَ كان رجالُ القرية يرتجفون
إذا شافوا البومة
وحفاة يجرون وراء البومةِ
يرمون نعالهمو !!! ) (72)
المسلمات و الحقائق البسيطة يعيد الشاعر تقديمها كما لو كانت كشفا جديدا للمتلقى فالبومة أنثى وليس هناك بومة ذكر، لكن أحداً لم يتوقف عند هذه الحقيقة ثم يطور الشاعر فكرته فيرصد موقف أهل القرية – والقرية هنا تعنى الأصالة والبساطة والنقاء والصدق– من البوم الذى لا وجود له إلا حيث الخراب والدمار، فرجال القرية كارهون للبومة ويطاردونها بكل ما يملكون حتى الأحذية وقد كان فى طفولته يتسأل لمَّ كل هذا الكره للبومة، صحيح أنها شامتة فرحة بكل أذى يحل بالقرية وصحيح أن حياتها الخراب، لكن اشياء كثيرة من الطيور و الحيوانات والحشرات تعيش نفس حياةالبومة ولا تتعرض لكراهية رجال القرية على وجه التحديد ومطاردتهم، فلماذا اليوم؟! ويلفت نظره كذلك: الشاعر فى طفولته أن النساء لا يطاردن اليوم ولا يحملن له كل هذا الكره وتستمر هذة التساؤلات الساخرة والمرة فى الوقت نفسه وتنمو وتضخم مع نموه هو نفسه ومع انتقاله من الريف إلى المدينة ليحاصر بالخدعة الكبرى: الحب والزواج وتكوين العش وإلى آخره هذه المفاهيم الإجتماعية التى ساقه إليها أو دفعهمن تورط فيها من قبل، كأن الرجال المتزوجين أصبحوا حاقدين على غير المتزوجين فيدفعونهم دفعاً لينالوا قسطاً من هذا السم الزعاف المسمى بالزواج انه وهم الجنة الذى انخدع فيه الشاعر وعاشه ثلاثة أيام فقط ثم تحول العصفور : الزوجة إلى بومة منوحة وحينها تكتمل البنية الدائرية للقصيدة فيعود الشاعر إلى حيث كراهية الرجال للبومة ومطاردتهم لها وقد أنضم واقعيا إلى خالعى النعال.
(هذه القصائد " لحظة"، "علاقات زوجية"، " تربية البوم"، نمط مبتدع وجديد فى فنون الهجاء لم يسبق إليه أحد حسب معرفتنا فحينما تقرأ مثل هذه الأعمال فأنت واقع تحت تأثيرها بدون شك وكاره لما يكره الشاعر وساخط على ما سخط بدون أن يضخم أنف الزوجة أو يصبغ جلدها بالسواد أو يورم عينيها. إن الشكل عنده لا قيمة له فقد تكون الزوجة هنا فاتنة الجمال لكنها فى أعلى درجات القبح : قبح الطوية، قبح النفس، قبح العقل، لا بذاءة هنا ولا خجل يتعرض له قارئ هذا الهجو الزوجى الفريد. وربما كان السبب هو احترام الشاعر للمرأة بصفة عامة بل وتقديسه لها.. فهن لديه جميلات بريئات إلا من تنغص عليه حياته فقط فهى الجديرة بالتحقير ويمكن أن نفهم كثيرامن هذه الرؤية عبر دواوينه التى صدرت(73) وكذلك كتابه الكامل حديث النساء (74)
هذا المصير الذى وقع فيه الشاعر ودفعه إليه المجتمع فى " تربية البوم" لم يرغب أن يدفع إليه غيره، بل يحس بالإشفاق على من يقع فى هوة الزواج، حتى ولو كان هذا الأحساس مجرد موقف سلبى راصد للطريق إلى الهوة كما قال فى قصيدته" عصفورة.. وبيت" يقول :
(هنالك يجلس زرزور حلم وزرزورةٌ
تغرد فى حضن وجدٍ تناثرَ من فيهِ
من عينيه
تدنو.. ويدنو
يبثان قلبيهما لوعةً
ويقنصُ من دقاتها نبضةَ
يذوب بهاءُ السعادة فوق الشفاة
فيغرق أذنى
أنا الحاقدُ الحاسدُ
تمنيتُ لو.....
***
هنالك تجلسُ أنثى، ذكرْ
تحاورَ حرفٌ وحرفٌ
وحُلمٌ وحُلمٌ
ورغباتُ بيتٍ يقام اآنَ
على طللٍ زالَ من أزمنةْ
هى الأنثى أُطلقَ منها القيود
هو الذكرُ طَلَّقَمن غيرها قيدَها
هما الآن يقتربان من حلمِ بيتٍ جديد
وقيدٍ جديد
لم يشتعل – بعد – فيه الصدأ
تهبُّ، تدبُّ، تدلىَّ الدلالُ
على خطوها
وخدرٌيشعُّ من الخصرِ
والصدرِ والمرمرين
وبينهما جبلٌ من الأقحوانِ،
الحرير، الجحيم، النعيمِ
الملغَّمِ بالشهوةِ المائجةْ
وقد مغنط القلب – قلبى – فشب إليه
ولم يبق منى على مقعدى
سوى الحقد أن هنالك
من يستبد قريبا بهذا الجحيم النعيم وحيدا
أنا الحاقد الحاسد المترقب
تمنيت أن.......
***
هنالك عاصفةٌ، عاصفٌ
تهبُّ عليه، يهب عليها
تقول : عليكَ.. يقول: عليكِ
تبصُّ يساراً، تبصُّ يميناً
وتبصقُ، يبصقْ !!
أنا الحاقدُ الحاسدُ الآن وحدى
تمنيتُ.. لا.. لا أتمنى !!! ) (75)
لقد راح كل منهما ينقش ظل الهوى والعشق على ثوب اللقاء الأول، كان الوجد يتناثر إلى درجة أثارت أحقاد الشاعر الصريح وتمنى لو أنه يقتنص هذه المرأة التى تستعرض سحرها أمام عريسها أو من يجلس معها والشاعر جالس عن قرب منهما وشيئا فشيئا تتحول عواطف الرجل والمرأة إلى عواصف ثلجية باردة تهب عليهما بعد أن تحول الكلام من العشق إلى الزواج بمراسيمه وشروطه فوقعت أول حالة نكد فى فترة ما قبل الزواج وكانت موجة النكد أعلى من حلم الزواج فطمسته..وأنقذ كل من الرجل والمرأة وإ، لم يسلم وجه كل منهما من بصقة الآخر.. وسلم الشاعر كذلك من رغبة اقتناص هذه المرأة الفاتنة..وإن لم يسلم العريسان من عين الشاعر الحاسدة الراصدة لكل همسة وهفوة وبصقة أيضا.
هذا نموزج آخر لهجاء مشروع الزوجية، أو الزيجات "تحت التأسيس" وربما تستكمل لنا حلقة ناقصة فى فهم الشاعر حزين عمر للزواج، كعلاقة إجتماعية، إنها علاقة خطرة تهدم أكثر مما تبنى.
لو كان لنا أن نتوقف عند سمة أخرى جديدة فى هجاء حزين عمر غير " نظافة" هذا الهجاء وعدم تعرضه للجسد البشرى أو للمفردات المقذعة الفاضحة فإننا لابد أن نلمح إنسانية هذا الهجاء وشموليته، بحيث يبدو كما لو كان يهجو عصرا بكامله لا فرداً بعينه يعيش هذا العصر، وربما كان موقف الشاعر فى هذا السياق.. أن البيئة هى التى تصنع الإنسان وهى التى تبث فيه بذور الشر أو الخير وتحدد معالم طريقه فى الحياة وسلوكه تجاه الآخرين.
هنالك موقف آخر يطرح تساؤلات كثيرة.. كيف يبدو الشاعر مبهراً كذلك إذا تغزل وشبب ؛ إنه فى كلتا الحالتين يصعد أعلى ذرى اٌبداع الشعرى.. ألا يبدو الأمر متناقضا هنا ؟! أم أنه يعود إلى المقولة القديمة: أعذب الشعر أكذبه.. أم إلى ما يمكن أن يقال من أن أعذب الشعر أصدقه؟!
نظن المقولة الأخيرة هى الأقرب إلى روح الشاعر وشعره فهو يتلبس كل حالاته ولحظة إبداع قصيدته لايعيش غيرها فإذا أحب : شعرأً فهو كائن هلامى محب فقط لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحدث..إنه عشق خالص، و إذا كره كان على الوجه النقيض من كل هذا، إن كون من ألغام الكراهية متفجر فى وجه من يبغض، والطريف كذلك أنه فى حياته العادية ليس هكذا.. فحياته شئ كواقع معاش وحياته الشعرية شئ آخر، فكأن حزين عمر شخصان اثنان منفصلان تماما وإن تماسا من حين لآخر فى بعض المواقف والمواقع. وهو يتماس كذلك مع صمويل بيكت فى رواينه ( الحب الأول والصحبة)(76) والتى حاول أن يبحث فيها عن الصلة بين الموت والحب، أو بين المقابر والزواج،وهذا هو عالم بيكت عالم اللاسببية أو اللامعقول وهو تلك الثنائيات اللامعقولة وغير المتوقعة التى يلجأ إليها ليبرهن للقلرئ أن العالم من حولنا لا معقول. واللامعقول عند حزين عمر هو الجمع بين عذوبة الغزل ورقته للمرأة المحبوبة المقدسة لديه وعمق ومررارة الهجاء للمرأة الزوجة.. وإن كان بيكت ظل يبحث عن علاقة المقابر بالزواج فإن حزين عمر يبحث عن العلاقة بين الزوجة والنكد الذى هو مرحلة أسبق للمقابر.. وفى كل الأحوال أظننا المستفيد الأول لهذا البحث الدائم خاصة فى حالة وجود مثل هذا التوثيق الرائع لمشروع شعرى جدير بالدراسة.