مثالب

مثالب

أيبدو الشعراء الأزواج غير موضوعيين وهم يفضحون مثالب الزوجات؟! أهم كذابون طبقا لمقولة: أجمل الشعر أكذبه؟! لاشك فى أن الشاعر بالمفاهيم الأخلاقية كاذب بالسليقة، ومتجرد من كل موضوعية وغارق فى الذاتية والنرجسية،وإن لم يكن كذالك فليس بشاعر ويمكنك أن تضيف مثالب أخرى فى الشعراء الأزواج وغير الأزواج إذا وزعت مثلبة واحدة منها على قبيلة كاملة؛ شوهتها، هنالك النفاق، والشذوذ، والزندقة، والسكر.. وشتى صنوف التحلل ولننظر إلى من كانوا يسمون أنفسهم بعصبة المُجان من أمثال.. والبة بن الحباب، وديك الجن، ومسلم بن الوليد وبشار بن برد، وأبى نواس، ثم ابن الرومى والمتنبى وحتى المحدثين أمثال عبد الحميد الديب، فهذة العيوب الأخلاقية ليست عيوبا بمفاهيم الفن، كما أنها قد لا تطفح على الفن نفسه فيكتب الشاعر المنفلت مثلا قصائد دينية تخشع لها الجبال على الرغم من أنه هو نفسه غير خاشع ولامتبتل فلننظر لقصائد شوقى الدينية الشامخة، بل ولننظر إلى قصائد أبى نواس نفسه الضارعة إلى الله، هنالك إذن فصل بين الشعر والشاعر.. أحيانا وقد لا يحدث الفصل حينا، ونسلم فى كل الأحوال بأن الشاعر ذاتى النظرة والأحكام فى قصائده الغنائية.. فما الذى يضع الزوجة تحت طائلة عقاب الزوج الشاعر، وتحت مقصلة لسانه البتار؟! ما يضع الزوجة فى يوم الحساب هذا؟
إنها مثالب تعشش داخل هؤلاء الزوجات، أكثرها فطرى وبعضها مكتسب، مما يعد مثلبة فطرية مقولة الحطيئة فى زوجته:

( أطوّف ما أطوّف ثم آوى        إلى بيت قعيدته لكاعِ )(77)

واللكاع هى المرأة الحمقاء.. فما أصعب على الرجل أيا كانت مهنته أو خصاله من أن يكون نهاية تطوافه هو المرأة الحمقاء البلهاء فما بالنا لو كان هذا الزوج شاعرا ذواقة لكل جمال منظور أو جمال عقلى، وياله من تعذيب يلقى فيه الشاعر مهما بعُد ومهما طاف.. فلابد أن له مأوى وهو لأجل هذا مقدر عليه أن يعذب بحمق زوجته، ولذا فهذا المقر الذى يجمعهما لم يسمه الشاعر منزلا ولم يسمه مسكنا وقد قال: " آوى " أى من المأوى ولم يقل أنزل أو أسكن كأن النزول ربما فيه معنى الأختيار، والسكن فيه معنى الدعة والراحة وليس هو هنا بمختار ولا بمستريح بفعل الحمقاء التى يأوى إليها، وليس بعيدا عن هذا الجو مسمى حديث هو مساكن الإيواء فلم يقولوا منازل او مساكن ويكتفوا بها بل وصفوها بالإياء لما تعنى من جبر وتدنٍ.

علينا إذن أن نكره زوجة الحطيئة هذه كما كرهها هو وأورد أقوى المبررات فى بيت واحد.

لاتقل أن الحطيئة نفسه كان بذيئا شتاما لم يدع أحد إلا وشتمه وأقذع فى شتمه حتى شتم أمه ونفسه، وإن ما نتوقف عنده هو مقولته فى زوجته ومدى علوها فنيا.

وقد يبدو هذا الحمق الفطرى كامنا فى نفس الزوج كمون الجراثيم والميكروبات، حتى يتبدى فجأة فى حياتها الزوجية، فهاهوذا محمد بن بشير الخارجى وقد تزوج ( جارية من بنى ليث، شابة وقد أسن وأسنت زوجته العَدوانية، فضربت دونه حجابا، وتوارت عنه، ودعت نسوة من عشيرتها، فجلسن عندها يلهون ويتغنين ويضربن بالدفوف، وعرف ذلك محمد فقال :

لئِن عانسٌ قد شاب ما بين قَرْنها  
    إلى كعبها وابيض عنها شبابُها
صَبَتْ فى طِلاب اللهو يوما وعَلقَّتْ
    حجابا لقد كانت يَسيرا حجابها
لقد مُتِّعت بالعيش حتى تشبعت 
    من اللهو إذ لاينكر اللهو بابها
فبينى برغمٍ ثم ظَلىِّ فربما      
      ثَوى الرغم منها حيث يثوى نقابها
لبيضاءَ لم تُنَسبْ لجدِّ يَعيبها  
      هِجانٍ ولم ننبَحْ لئيما كلابها
تأوّدُ الممشى كأن قناعَها    
      على ظبية أدْماءَ طابَ شبابها
مهفهفة الأعطافِ خفّاقة الحَشَى
      جميل محياها قليل عِتابها
إذا ما دعت يابنى نزار وقارَعَتْ
      ذَوِى المجد لم يردد عليها انتسابها)(78)

وفى الوقت الذى ينبغى أن تميل فيه المرأة إلى السكينة والوقار وقد أسنت تنقلب هذة العجوز إلى اللهو والقصف وتترك زوجها منفردا لذاته وحيدا فى داره. وقد اسأت التقدير فانقلب عليها وتزوج بمن هى خير منها ولم ينالها غير هذه الأبيات التى تحط منها وتكشف غباءها، والأشد عليها - لو كانت تفقه- أن يمتدح ضرتها الفتاة الصغيرة الجميلة حسدا وعقلا المؤصلة كذلك حسبا ونسبا.
وليس كل الأزواج الشعراء شتامين للزوجات الحمقاوات فربما (عُرف فى المرأة حمقها واحتُملت.. فقد ( سمع عمر بن الخطاب رحمه الله أعرابيا يقول : اللهم اغفر لأم أوفى. قال ومنَ أم أوفى؟ قال: امرأتى، وإنها لحمقاء مِرغَامَةُ " أى مبغضة لزوجها"، أكول مَامَّةُ " أى أكول طماعة" لا تَبقى لها خامّةُ، غير أنها حسناء فلا تُفْرك وأمَّ غلمان فلا تُتْرك. قالوا: ودفعوا إلى إعرابية عِلكا لتمضغه، فلم تفعل، فقيل لها فى ذلك فقالت : ما فيه إلا تعب الأضراس وخيبة الحنجرة)
هذاالنموذج من النساء لايتسم بالحمق فقط، بل بالكسل أيضا.. فتحريك أضراسها بالمضغ يتعبها، فما بالنا بتحريك يديها وصدرها ورجليها ومؤخرتها)(79)
فالمتعة التى يبغيها الرجل أعلى من عبء حمق المرأة إنها غلبت الغريزة عليه لأن زوجه أنثى تُمتع وأم تثمر وحاجة العربى إلى متعة الجسد وتخليد الأثر بالأبناء أكبر من كل متعة ومن كل أذى أيضا. ولسنا الأن بصدد حصر كل عناصر الخلل النفسى فى المرأة من غباء وبلاهة وحمق فطرى فهذا مالا يمكن حصره لا فى النساء ولا فى الرجال.. إنما نحن نتوقف عندما أثمره هذا الخلل من إبداع شعرى، وهناك أنماط من هذا الخلل ليست من صنع الطبيعة ولا خاضعة للفطرة منها مثلا سلاطة اللسان، ونرى أنفسنا أمام نموزج أعلى فى رد لكمة الرجل بلكمة أشد بل ربما رد كلمته ببصقة على وجهة متجسدا فى هند بنت النعمان ابن بشيرالتى كانت زوجا لروح بن زنباع ( وكان شديد الغيرة، فأشرفت يوما تنظر إلى وفد من جُذام، كانوا عنده، فزجرها. فقالت: والله إنى لأُبغض الحلال من جُذام، فكيف تخافنى على الحرام فيهم. وقالت له يوما: عجبا منك كيف يُسوِّدك قومك؟ وفيك ثلاث خلال: أنت من جُذام، وأنت جَبان، وأنت غَيور؟ فقال لها : أما جُذام فإنى فى أرومتها، وحَسْب الرجل أن يكون فى أرومة قومه. وأما الجُبن فإنما لى نَفس واحدة، فأنا أحوطها، فلو كانت لى نفس أخرى جُدت بها. وأما الغَيرة فأمرٌ لاأريد أن أشارك فيه وحَقيق بالغَيرة من كانت حمقاء مثلك مخافة أن تأتيه بولد من غيره فتقذف به فى حجره فقالت:
وهل هند* إلا مهرةٌ عربيةٌ     
              سليلةُ أفراسٍ تجللها بَعْلُ
فإن أنجبت مُهرا عريقا فبالحرى
      وإن يك إقراف فما أنجب الفَحل)(80)

هذه حلبة ملاكمة يستخدم الرجل فيها قبضة واحدة بينما تستخدم المرأة قبضتين فهو يخاطبها شعرا فترد عليه شعرا ونثرا وتفند تلميحاته لها بأنها غير جديرة بالثقة وغير أمينة على الزوج وأنها حمقاء بشتمه هو والتحقير منه ثم من أهله، ثم حتى من عياله القادمين الذين سوف تنجبهم منه، فإن كانوا - كما تقول فى بيتيها – ممتازين فهم لها بصفتها مهرة عربية أصيلة، وإن كانوا حقراء ؛ فحقارتهم تعود إلى الفحل : أبيهم، لقد سدت عليه كل المنافذ.
أما امرأة الفرزدق فقد استفزته حين طالبته بحقها الزوجى وقد شاخ الإثنان معا ولم تشخ هى رغبة.. وحينما كبرا اتهمته بالعجز الجنسى فرد عليها الإتهام باتهام من الجنس نفسه قال:
( أنا شيخٌ ولى امرأة عجوز       تراودنى على ما لا يجوز
وقالت رق أْيرك مذ كبرنا         فقلت بل اتسع القفيز  )(81)

المرأة هنا سليطة اللسان فى الحق وما وصلنا من سلاطتها جاء عبر الخصم: الفرزدق لا من خلال التلقى المباشر، وقد حجتها ثم أفسدها بحجة أقوى.. ومن الطريف أن تنتقد المرأة مثيلتها فيما يتعلق بالممارسة الجنسية فقد ( قالت امرأة من أهل الكوفة : دخلت على عائشة بنت طلحة فسألت عنها، فقيل هى مع زوجها فسمعت شهيقا وشخيرا لم أسمع مثله ثم خرجت وجبينها يتصبب عرقا، فقلت لها : ما ظننت حُرة تفعل هذا بنفسها! فقالت : إن الخيل تشرب بالصفير)(82)
جاء رد عائشة بنت طلحة هادئا باردا ويبدو أنها تملك ضميرا يقظا تجاه زوجها وحقه فى المتعة كما أن الخيل تشرب وتصدر صوتا وهى كذلك.. تمارس عملا طبيعيا لا يحقرها ولا يسوؤها ويبدو أن هذه العلاقة الخاصة جدا بين الرجل وزوجته تحتل مكانا بارزا فى توتر العلاقة بينهما، فقد قال عمار ذى كُبار فى زوجته دومة بنت رباح بعدما طلقها وتزوج بأخرى :

(إنَّ عِرسى لا هداها               اللهُ بنتٌ لرباح
كلّ يومٍ تُفزعُ الجُلاسَ                     منها بالصّياح
ورَبُوخٌ حين تُؤتَى                         وتَهيا للنكاح
كَلْبُ دَبَّاغٍ عَقورٍ                                 هِرُّ منْ بَعْدِ نُبَاح
ولها لونٌ كدَاجى الليلِ                     مِنْ غَيْرِ صَبَاح
ولسانٌ صارمٌ كالسيفِ                    مشحوذِ النواحى
يقطعُ الصخرَ ويفر                     يه كما تَفرِى المساحِى
عجلَ اللهُ خلاصى                      مِن يديها وسراحى
تتعبُ الصاحبَ والجا                  ر وتبغى من تُلاحى
زعمتْ أنى بخيلٌ                      وقد أخنَى بى سَمَاحى
ورأت كفى صِفراً                      من تلادى ولقاحى
كذَبَتْ بنتُ رباحٍ                        حينَ هَمَّتْ باطراحى
حاتمٌ لو كانَ حياً                      عاشَ فى ظلَّ جناحى
ولقد أَهلكتُ مالى                    فى ارتياحى وسماحى
ثم ما أبقتُ شيئاً                      غيرَزادى وسلاحى)(83)

فمجرد أن طلقها واستراح.. كشف سوءاتها الجنسية والجسدية، ثم عرج على سلاطة لسانها وكذبها واتهاماتها له بالبخل ودافع عن نفسه وكأنه جردها من أية صفة طيبة.. جسدا وعقلا.. إنساناً وأنثى.
لكن بعض الأزواج يبدو على وجه النقيض من هذه الحالة المكشوفة والفاضحة للزوجة فهاهوذا جران العود يصرح بكراهيته للمرأة التى فى البيت – على طريقة الحطيئة- لكنه لم يفضحها كما يفضحها فى علاقتها الخاصة به، إنما برر هذه الكراهية بأنها هى كذلك تكرهه :
(يقولون فى البيت لى نعجة             وفى البيت لو يعلمون النمر
أحبى لى الخير أو أبغضى                 كلانا بصاحبه ينتظر.)(64)

وربما نبدو فى حاجة إلى نمازج موثقة لبذاءات النساء أنفسهن ولن نعدم الحصول على مثل هذه النمازج وإن توقعنا ضياع الكثير منها لأن المرأة العربية لم تكن قادرة على التجوال فى الأسواق لعرض شعرها كما يفعل الرجال ولا تجد تحت يديها راوية ينقل ما تفيض به قريحتها إلى الآفاق وحتى لو وجدت الراوية وخرجت إلى الأسواق والتجمعات.. فهى فى حرج من شتم زوجها فإذا شتمته فلن تقذع وقد لا تصرح إلا بالقليل مما تعانى، ومما تدخر ومما تستطيع أن تعبر، وحلقة أخيرة من حلقات الحصار قد تفرض عليها حين ينفذ شعرها من كل هذه الأسوار ويصل إلى الناس، فيكرهونها وينقلبون عليها وينبذون مقالاتها فلا تُحفظ ولا تُروى إلا نادراً لأن من يَحفظ ومن يَروى غالباً هو الرجل، وهو الزوج، أى زوج.

وعلى الرغم من ذلك فقد وقع تحت يدينا بعض من هذه النمازج منها بيتا عائشة بنت عثمان بن عفان وقد ( قالت فى هجاء أبان بن سعيد بن العاصى حين خطبها ونزل (أيلة) وترك المدينة :
نَزَلت ببيتِ الضّبِّ لا أنت ضائر     عدوا ولا مستنفعا أنت نافع)(85)
هى تكرهه حتى قبل أن يقترنا وتشتمه قبل الزواج على سبيل المران لتدريب لسانها.
أما حفصة بنت المغيرة فقد كانت فى بيت زوجها فعلا، حنطب بن عبد الله المخزومى فقالت فيه:
(ولا تأمنن الدهر بعدى حرّة     وقد نكح البيض الحرائرَ حنطبُ
لئيم لسوادِ الجواعر جعدة         على أهلها مما تُصرُّ وتحلب
تطاومَها الأنساب حتى تردّها   إلى نسب فى آل دمَّةَ مطنب)(86)

فهى أصيلة ابنة أصلاء وهو ليس كذلك من وجهة نظره، وهو هجاء نسائى نظيف فلا أظن المرأة تستطيع مثلا أن تتوقف كثيراً وتعلن على الملأ العجز الجنسى لزوجها. أما الرجل فهذا الأتهام جاهز غالبا فى هجاء زوجته.
توقفنا إذن عند هذه المثالب الفطرية والمكتسبة للزوجة وقد وردت أحيانا على لسان الشاعر وأحيانا أخرى على لسانها هى وكانت بذاءتها ختاما لهذه المثالب ونرى أن هذه البذاءة أو هجاء المرأة لزوجها تحمل وجها آخر غير الوجه لهذه المرأة، أنها تعنى وجود شاعرات عربيات وتعنى إحساسا ًبالمساواة بين الرجل والمرأة فى تراثنا العربى بل وربما رأت المرأة أنها الأعلى والأفضل من الرجل كما أشرنا من قبل ويعنى هذا أخيراً وجود مساحات من الحرية للمرأة العربية.. تستطيع من خلالها.. لا أن تعبر عن نفسها فقط بل أن تنتقد الطرف الآخر وتهاجمه إلى حد البذاءة.