هجاء.. بهجاء


هجاء.. بهجاء


الأدهى من الهجاء ما يبدو أنه لا هجاء، انه موقف مزدوج ينتقم فيه الشاعر من خصيمته بهجوها من وراء ستار، ويصقل هذا الستار إلى حد أنه يبدو ألا هجاء بل هو مديح ما أو على الأقل موقف محايد فينفى الشاعر عن نفسه أنه شتام بذئ، يبدو بريئا فى نظر الآخرين، فمنالذى يستطيع أن يتهم الحسن بن أحمد بن الحجاج بأنه منفلت اللسان وهو يرثى امرأة صديق لهسقطت من السطح فماتت حين قال فيها:

(عفا الله عنها إنها لو ودَّعَتْ
  أجلُّ فقيد فى التراب مغيَّبِ
ولو اعتلَّت لكان مصابها     
                      أخف على قلب الحزين المعذَّب
ولكن رأت فى الأرض أفعى مجدلاَ
 على قدر غرمول الحمار المشغًّبِ)(99)

ظاهر الكلام أن الحسن حزين لهذه الوفاة ويأخذ المتلقى معه فى دوامة الحزن حتى نقع فى المفارقة فى البيت الأخير بأنها سقطت اشباعا لغريزة.

ومن ذا يلوم جليلة رضا وهى تتهم زوجها بالاستهتار والشر والتوحش وهى تقول فى قصيدتها ( أنا والليل ):
(وتركت بعْدَك فى الصباح ديارى 
      وأنا على غيظى وثورة نارى
وذهبتُ أشكو منكَ عندَ أقاربى      
                    وبحدَّةِ الإفضاءِ آخذُ ثارى
وعلى الطريق تبخَّرت من خاطرى  
                    ذكرى الإهانة والأسى والعار
عارضتُ نفسى فى الشكاية مثلما  
                    يتصرف الأزواجُ فى استهتار
وذهلتُ كيف نويت أكشفُ سَّرنا
     وحياتُنا قدسيةُ الأسرارِ
وأجاب عقلى يا بنيّة أنَّه     
            رغم الخلافِ المرِّ ربُّ الدارِ
ولمحتُ فى قلقٍ خيالكَ قائما    
     بينى وبينَ الأهل فى إصرارِ
وخشيتُ أروى عنك أية هفوة  
      لتظلَّ فى الأذهان رمزَ وقار
وكأنَّما بالأمس لم تكُ غاضبا 
      متوحشا فى ثورة الأشرار
سلمتُ فى عجلٍ وعدتُ كما أنا
      أطوى بعمق جوانحى أخبارى)(100)

فما يبدو لنا هنا أنه الوفاء منها والإخلاص للزوج وقد سترت عيوبه عن أهلها وإن لم تسترها عن ملايين القراء وعن صفحات التاريخ وإلى الأبد، فيالها من براءة مدعاة وذكاء ودهاء حينما يبدو الهجو فى غير ثوب الهجو. لكن الدهاء قد خانها حينما واجهت الرجل فى ساحة قتال فكرى مباشرة فى قصيدتها " من المرأة إلى الرجل" ففندت ظلمه وخوفه وادعاءه وكل مثالبه سواء أكان زوجا أم جنس الرجل بصفة عامة.. تقول قصيدتها من المرأة إلى الرجل:

(ماذا تريد؟ ماذا تريد؟  يا أيها الرجل العنيد
يا أيها الرجل الذى لن يستفيد ولن يفيد
إنى أراك مع الزمان حملت لى حقدا حقودا
تمضى السنون وأنت أنت تريد تجهل ما تريد
أغرتك (سيكلوجيتى) فمضيت تبحث لا تحيد
عنى.. وعن نفسيتى، عن كنه سرى فى الوجود
وكأننى شىء غريب نادر.. شىء فريد..!
فهناك تحت شجيرة الجميز فى الحقل المديد
وهنا حتى فى الخنادق حيث يحتشد الجنود
لا شىء إلا سيرتى تلهو بها وقتا سعيد
لا شىء غيرى يستفزك أن تقول وأن تعيد
ماذا تريد؟ ماذا تريد؟
إنى إذا أحصيت ما قد قلت عنى لن أجيد
صورتنى عربيدة حينا وشيطانا مريد
ونسبت كل الحادثات إلىَّ من زمن بعيد
فأنا السفالة والنذالة والخيانة والجحود
وأنا حواء أغرت آدم الغر الطريد
وأنا التى سببت قتل عشيرتين من الصعيد
وأنا التى وضعت لضرتها سموما فى الثريد
ولقد أكون أنا التى أشعلت نارك بور سعيد!
ماذا تريد؟ ماذا تريد؟
أنا كل شىء فى حياتك إننى شىء مجيد
البيت دونى كالردى  والكون كالقبر المديد
والصبر دينى والحنان شريعتى والعطف جود
وأنا بكل كيانى المهزول كالبطل النجيد
أتحمل الآلام والأمراض فى عزم شديد
ولقد تخزك إبرة فتئن كالطفل الوليد
وتكح، تعطس فى الشتاء كأن جسمك من جليد
وأنا بفستانى القصير وبالسواعد والزنود
من أى ضلع جئت منك فإن ضلعك كالجريد!

ولا نتوقف عند نقاط الخور فى بنية القصيدة، سواء على مستوى المفردات كلفظة ( سيكلوجيتى) أو مستوى التركيب الذى يهبط بالجملة الشعرية أحيانا إلى حد الأبتذال العامى كقولها ( وأنا التى أكلت ذراع طليقها حتى يعود) وكذلك ( وأنا التى وضعت لضرتها سموما فى الثريد) ما يشابههما من معان تدور على ألسنة العامة ولم تحورها إلا قليلا.. وكذلك لا نفتش عن جمال السياق فى بعض المواقع كقولها ( البيت دونى كالردى والكون كالقبر المديد).. إنما يشغلنا هنا هذه الوقفة الحاسمة من الرجل وتقيد دعواه عن المرأة ككائن شرير، ولم يذكلا أنه الضعيف كالذبابة أمام ( شكة الدبوس) أو عطسة البرد.. وفى كل الأحوال هو أصلها فلو صلح الأصل لأستقام الفرع!!)(101)

ويبدو لنا ونحن نستمع إلى القصيدة أنها تقف على تبة " لضرب النار" ثم تطلق رصاصاتها على ذهن الرجل ونفسيته ومشاعره وتاريخه، أو على إقل تقدير تعتلى منبر وتصرخ فيه : ماذا تريد؟.. ماذا تريد؟
وتؤكد مفاهيم الخطابة بندائها : يا أيها الرجل.. ثم تسخفه منذ البدء وكأنها تريد أن تهزمه (بالقاضية) منذ بدء الجولة فهو لن يستفيد ولن يفيد وراحت بعد ذلك تُفصل هذا الحكم العام وتنازله منازلة الأعداء الألداء ومدخلهاإلى هذا انه جاهل ( بسيكولوجيتها) أو طبيعتها كما لو كانت عنصرا من عناصر العلم الذى لابد من الإلمام به،  أو أنها "حشرة""فى معمل الفيزياء عليه أن يحسن تشريحها قبل أن تشخص مرضها.
هذه القصيدة رغم مباشرتها ولا نريد أن نقول سطحيتها مؤثرة جدا فى المتلقى- حسبما نظن – لأن وراءها احساسا بالظلم تعانيه المرأة واحساسا تاريخيا بالقهر من هذا الرجل زوجا كان أم غيرزوج. هنا عنصر الصدق جعل القصيدة مخترقة للقلوب مباشرة حتى لمن يطلع عليها من الرجال.
ومع هذا النمط من الهجاء المغلف أو المستور خلف الوصف أو الغزل هنالك هجاء هجاء قد تدلى فيه المرأة بدلوها ولا تقف كليلة اللسان فى مرمى رصاص الرجل ولا تفتقد لبذاءة الشعراء فها هى ذى أم أسود الكلابية تهجو زوجها :

(سأنذر بعدى كل بيضاء حرة                                                 منعمة خود كريم نجارها
قصير قيال النعل يضحى وهمه
                    قريب ويمس حيث يعشيه نارها
إذا قال قد أشبعتنى بات راضيا
                    له شملة بيضاء ضاق خمارها
يرى الطيب عارا أن يمس ثيابه
                    أو المسك يوما ان علاه صوارها
ولكنه من رطب أختا حنانه  
                    اذا أمرعت بالكف من ديارها
وطير بذيال يرى الليل متنه  
                    لناقته حتى يحين اذكرارها
بعيد المدى يقضى الكرى فوق رحله
                    اذا القوم بالموماه حار شرارها
لعمر أبى ما خار لى أن يبيعنى
                          بأبعره اذا قمحته عشارها
فوالله لولا النار أو أن يرى أبى
                          له قودا أو ينالنى علرها
لقد نازعت كفى المهند ضربة
                          وكان عليه خبلها وشنارها)(102)

تحذيرشديد اللهجة – بلغة السياسين – لكل بنات جنسها من الزواج بهذا الرجل الذى لا ترى حلا له ولمثالبه ولحقارته شكلا ومضمونا وسمتا إلا أن تسحب سيفا وتقضى عليه بضربة واحدة وليس يمنعها من هذه الفعلة إلا أن تترك عارا أو ثارا لأبيها. والأمنية القديمة لأم الأسود حققتها الكثيرات من حفيداتها فى الزمن الراهن حينما شاعت حواث قتل الأزواج على يد الزوجات بل وتقطيعهم وتعبئتهم فى أكياس. وعل ما يبدو أن هؤلاء الحفيدات قد شحن أزمانا طويلة بكراهية الأزواج منذ قالت خولة بنت الأزور الكندية :
( أعلاج سوء فُسَّق عُتات          ينان سِنّا أعظم الشّتات)(103)
فهى هنا توزع الأتهام على الأزواج بدون تخصيص وعلى كل فرد منهم أن يثبت العكس وأن ينفى عن ذاته الفسق والخسة.
ولندع هذه التعميمات لنعيش قصة طريفة من الهجاء الزوجى الرصين بين حميدة بنت النعمان بن بشير وزوجها روح بن زنباع وقد تصدت له المرأة وهى جديرة بالتصدى إذ أنها مزواج أقترنت أولا بالحارث بن خالد بن العاصى بن هشام ثم بروح ثم بالفيض بن محمد الحكم وفى زوجها الأول قالت:
( نكحت المدينى أذا جاءنى  فيالك من نكحة غاوية
 كهول دمشق وشبانها      أحب إلينا من الحالية
صنان لهم كصنان التيوس  أعيا المسك والغالية.)(104)

فهى خبيرة نشوز وخروج على الأزواج وتحقيربشأنهم. فلنعد إذن إلى قصتها مع زوجها الثانى روح ابن زنباع قالت تهجوه:
( بكى الخَزُّ من رَوْحٍ وأنكر جلدَه
   وعَجَّتْ عجيجاً من جُذامَ المطارفُ
وقال العَباقد كنتُ حينا لباسَكم    
     وأكسيةٌ كُرْدِيَّةٌ وقطائفُ.
فقال روح:
إن تَبْكِ ممن يُهيُنها         وإن تَهْوَكم تهوَ اللَّئامَ المَقَارِفا.
وقال روح:
أثنىِ علىَّ بما علمتِ فإننى  مُثنٍ عليك لبئس حَشْوُ المِنْطقِ.
فقالت:
أثْنىِ عليك بأنّ باعَكَ ضيِّقٌ  وبأن أصلك فى جُذَامٍ مُلْصَقُ.
فقال روح:
أثْنىِ علىَّ بما عَلِمْتِ فأننى   مُثْنٍ عليك بمثل رِيح الجَوْرَب.
فقالت:
فثناؤنا ناشرُّ الثَّنَاء عليكمُ          أسْوَا وأنْتَنُ من سُلاَح الثَّعَلبِ.
وقالت:
وهل أنا إلا مُهْرَةٌ عربيةٌ           سَليلةُ أفراس تجللَّها بَغْلُ
فإن نُتِجتْ مُهْراَ كريماً فبالحَرىَ   وإن يك إقرافٌ فما أَنجب الفحل.
فقال روح:
فما بالُ مُهرٍ رائعِ عَرَضتْ له     أتانٌ فبالت عند جَحفلَة البغلِ
إذا هو وَلى جانبا ربِخَتْ له   كما ربختْ قمراءُ فى دَمسٍ سهل.
وقالت:
سُميت روحا وأنت الغُّم قد عَلِموا
                  لا روَّح الله عن رَوْح بن زِنباعِ.
فقال رَوْح:
لا رَوَّح الله عمن ليس يمنعنا      مالٌ رغيبٌ وبعلٌ غير مِمْناعِ
كشافعٍ جَوْنةٍ تُجْلٍ مَخَاصُرها دَبَّابةٍ شَثْنةِ الكَفَّيْنِ جُيّاع.
وقالت:
تكحل عينك بَرْدَ العَشِىّ                  كأنك مُومِسَةُ زانية
وآيةُ ذلك بعد الخُفُوقِ              تَغَلُّف رأسِك بالغاليه
وأنّ بَنيِكَ لَرْيبِ الزما              ن أمستْ رقبهُم حاليه
فلو كان أَوسٌ لهم حاضرا         لقال لهم إنّ ذا ماليه.
وأوس رجل من جُذام يقال : إنه استودع رَوْحا مالاً فلم يرده عليه.
فقال لها روح:
إن يكن الخُلْعُ من بالكم                  فليس الخلاعةُ من باليه
وإن كان مَنْ قد مضى متكلم فأفٍّ وتُفٍّ على الماضية
وما إنْ برا الله فاستيقنِه           من ذات بعلٍ ومن جاريه
شبيهاً بك اليومَ فيمن بَقى   ولا كان فى الأعَصْرُ الخاليه
فبعد المحْياكِ إذا ما حَييت   وبُعداً لأعظُمكِ الباليه)(105)

كأن روحا فى أبياته الأخيرة ]علن الأنسحاب أو التسليم ويريد أن يختم هذه الهجائية المتبادلة، فكيف سمح لها – أى الهجائية – أن تستمر وتتوالد كل هذا التوالد بحيث لم تترك له الزوجة البذيئة شاردة ولا واردة إلا جرحتها وسفهتها وطمستها، انه أكبر انتقام لجنس المرأة من جنس الرجال بعامة والأزواج على وجه الخصوص.. ويبدو لنا أن حميدة هذه هاربة من جنس الشعراء، فنفسها نفس شاعر لا شاعرة ومنافحتها منافحة الرجال لا النساء ولم تصمد مع أىٍ من الأزواج هؤلاء لأنها ناطحتهم قامة بقامة انها طبيعة رجالية تخلو من الأنوثة لكنها تعوضها بالعبقرية الشعرية.
ومع مثل هذه الأنماط من الرد الزوجى الذى بلغت فيه حميدة شأوا عاليا هناك نمط آخر من الردح بين شاعرة وشاعر لكنه ليس زوجا.. من هذا القبيل مقولة ليلى الأخيلية للنابغة الجعدى:
(أنابغ لم تنبغ ولم تك أولا   وكنت صنيا بين صدين*مجهلا*

أنابغ لم تنبغ بلؤمك لا تجد للؤمك الأوسط جعدة مجهلا*)(106)
وكان الجعدى قد قال لها:
( ألا حيا ليلى وقولا لها هلا     قد ركبت أمراَ أغر محجلاً)(107)

ولم تبلغ ليلى فى هجائها هذا ما بلغته حُميدة من بذاءة أنما تصدت للنابغة من غير أن تسف.
ومع هذا النمط من الردح أيضا هنالك ردح نسائى نسائى بين زوجتين كل منهما ترى فى الأخرى عيبا ربما ماهو بعيب أنه الصراع القديم الجديد بين القديمة والجديدة، ويذكر ( يحيى بن عبد العزيز بن محمد بن الحكم عن الشافعى أن رجلا من الأعراب تزوج امرأة جديدة على زوجته القديمة فكانت جارية الجديدة تمر على باب القديمة وتقول:

وما تستوى الرِّجْلاَن رِجْلُ صحيحة
                      ورِجْلٌ رمى فيها الزمانَ فشُلَّتْ
وقالت بعد أيام:
وما يستوى الثوبان ثوب به البَلى
  وثوب بأيدى البائعين جديد.
فخرجت إليها جارية القديمة وقالت:
نَقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى
  ما القلب إلاَّ للحبيب الأول
كم منزل فى الأرض يألفه الفتى
   وحنينه أبداً لأول منزل.)(108)

فكل امرأة تعرض بضاعتها الأولى  حداثة عهدها بالزواج بحيث أصبحت سند الزوج الذى تتحرك به كما لوكانت رجله الصحيحة بينما شلت الرجل الأخرى أو الزوج القديمة، ومع إصرار الزوجة الجديدة على مهاجاة القديمة انحط اداؤها الشعرى فى البيت الثانى فشبهت نفسها وضرتها بالثوبين وما أبعد احتياج الإنسان للثوب عن احتياجه لرجله أو لأى جزء من جسده، وحولت نفسها فى الشطر الثانى إلى سلعة تباع وتشترى حتى لو كانت جديدة، إنما الزوجة القديمة فقد احتشدت لها لتطلق حكمة أو تفجر موقفا شعريا خلد على الألسنة فى بيتيها السابقين بصرف النظر عن مدى صحة ما قالت من أن القلب للحبيب الأول، ثم إن النين يختلف عن الحب فقد يحن المرؤ لحبيبه الأول أو يهفو إليه لكنه لم يعد يعشقه، ولذا جاء تعبيرها فى البيت الثانى أدق وأدخل فى طبيعة النفس البشرية علاقتها بما حولها على غير البيت الأول، أى أن المرء يحن فعلا لأول منزل على الرغم من أنه قد لا يقيم فيه وقد لا يحبه وتستمر المهاجاة النسائية النسائية لنشهد حالة غريبة بين الشاعرتين فضل وخنساء جارية هشام المكفوف والغرابة هنا أن كلا من الشاعرتين لها " سنيد" فكان يعاون فضلا أبو شبل عُصم بن وهب وكان يعاون خنساء القصيدى الصلحى كما يذكر أبو الفرج فى الأغانى (وقد أورد أبو الفرج أبياتا كتبها أبو شبل على لسان فضل يهجو خنساء، فهل فعلا لأبى شبل هذا أم هى لفضل أم أنها أنتاج مشترك، أم أن فضلا كتبتها ونقحها لها أبو شبل هذه حالة تستدعى دراسة عميقة والوقف عند سمات الأبيات وبالنظر فضل بصفة عامة تقول هذه الأبيات:
(خنساءُ طيرى بجناحين           أصبحتِ معشوقة نَزْلَين
مَنْ كانَ يَهْوىَ عاشقاً واحداً فأنْتِ تَهوين عشيقين
هذا القصيدىُّ وهذا الفتى    الصّلحى قد زارك فردين
نَعِمْتِ مِنْ هذا وهذا كما           يَنْعَم خنزيرٌ بحشَّيْن.
فقالت خنساء تجيبها:
ماذا مقالُ لك يا فضلُ بلْ     مقالُ خِنزيرين فردين
يُكَنَّى أبا الشبل ولو عاينتِ   عيناه شبلاً راث كُرَّين.
وقالت فضل فى خنساء:
إنَّ خنساءَ لا جُعلت فداها    اشتراها الَساَّرُمن مولاها
ولها نكهة يقول مُحَاذِيها          أهذا حَدِيُها أم فُساها.)(109)

وعلى كل سواء أكانت هذه الأبيات انتاجا رجاليا أم نسائيا أم مشتركا فهى لا تخرج عن كونها شتما صريحا وبذاءة من القول لا تضيف قيمة لقائلها أنها تذكرنا بمشاجرات النسوة فى الأحياء الشعبية بالقاهرة وعلى غير هذا الفساد الفنى نرى مثلا بيتين لجندل بن الراعى وزوجته من بنى عقيل ( وكان بخيلا فنظر إليها يوما وقد هزلت وتخدَّد لحمها، فأنشأ يقول:
عُقَيلَّةٌ أما أعالى عِظامِها          فَعُوجٌ وأما لحمها فقليلُ.
فقالت مجيبة له عن ذلك:
عُقيليةٌ حسناءُ أزرى بلحمها طعامٌ لديكَ ابن الرّعاءِ قليلُ.
فجعل جندل يسبها ويضربها وهى تقول : قلت فأجبتُ، وكذبتَ فصدقتُ، فما غضبك؟!)(110)

فلا اسفاف هنا وإن بدا الهجاء مادياً. وليس يفوتنا أن نتوقف عند نمط من الهجاء اكتمل كفن فى تجربة إنسانية لم تكتمل فهاهوذا دريد بن الصمة يهجو الخساء وتهجوه بمجرد أن خطبها وما كان قد تزوجها، لقد تقدم لخطبتها ( ورفضته قائلة ما كنت لأدع بنى عمى وهم مثل عوالى الرماح وأتزوج شيخا وهجاها بقوله:
وقاك الله ياابنة آل عمرو          من الفتيان أشباهى ونفسى
وقالت اننى شيخ كبير       وما نبأتها انى ابن امسى
فلا تلدى ولا ينكحك مثلى    اذا مالياة طرحت بنحس
تريد شرنبث القدمين شثناً   يباشر بالعشية كل كرس.
فأجابته بقولها:
معاذ الله ينكحنى حبركى         قصير الشير من جشم بن بكر
يرى شرفاً ومكرمة أتاها             إذا أصبحت فى دنس وفقر
قبيلته اذا سمعوا بذعر           تخفى جمعهم فى كل جحر)(111)

فما بالنا لو أن الزواج قد تم والتجربة قد بلغت منتهاها، ربما لخرجنا بأهاجى لا تقل عن أهاجى الفرذدق وجرير فكل من الشاعرين : الخنساء ودريد فحل فى مجاله وبين أقرانه.
هل يظن ظان أن جداتنا وحدهن سليطات اللسان.. لا فالسلاطة قسمة غير ضيزى بين النساء جميعا ففى العصر الحديث وفى أيامنا هذه طالت ألسنة المرأة أيضا تشريحا وتجريحا فى الزوج وفى الرجل بصفة عامة، وقد ( شنت شاعرات مصر حربا على الطلاق الذى لا تُلجئ إليه الضرورات وحملن على العابثين بالعلاقة الزوجية الذين يطلقون شرها إلى التغير. فالشاعرة فلورى عبد الملك تقول أنها كانت تعيش فى وهم كبير، فإذا بكل ما تراه أو تسمعه رياء فى رياء، فمن كانت تظنه شهما وفيا، فمنحته قلبها وعطفها وحنانها إذا به مخادى غادر، تقول فى قصيدتها" رياء"
رياءٌ كلُّ ما يبدو لعينى
رياءٌ كلُّ شىءٍ مسَّ أذنى
رياءٌ كلُّ شىء عاشَ حولى
بوهم- خلتُهُ بيتى وحصنى
وكنتُ أُفَتُّشُ الأركانَ علىَّ
أُلاقى فى الزوايا حُلْمَ أَمنْىِ)(112)

هنا فى هذه المقطوعة نقلة أو ارتقاءبفن الهجاء فليس الزوج عنينا ولا قصيرا ولا قميئا ولا بخيلا إلى أخر هذه الصفات التى اعتدناها فى هجو جداتنا لأجدادنا. قدمت الشاعرة هنا صورة كلية أقرب إلى التجريد تنضوى جميعا تحت مسمى الرياء.. فما فصلته رياء وما سكتت عنه أيضا رياء، قياسا على المنطوق به.
وإذا كان هناك ميل إلى التعميم والتجريد كشىء من بنية العقل الحديث فإن الشاعرة لا تميل إلى تركيب الصورة الشعرية والتحليق بعيدا فى آفاق الخيال.
والحكم نفسه يمكن إطلاقه على إيمان بكرى فى قصيدتها "سوف أبقى دائما" التى تقول فيها:
( بك أو بدونك سوف أبقى دائما
نبعا يفيض بلا انقطاع
شمسا يدثرها العطاء
أنثى ومثلى لا تباع
قلبى سيغدو بلبلا بكرا نقيا
ولسوف أبقى فى الحياة وللحياة
لأرتقى فى الأسر قيدا وابتياع
وسأرتوى من نبع أيامى الضية
وأريق كأسا للتخلف والضياع
فإلى متى ستظل تلعنق فى غباء
أصداء ماضٍ لن يعود إلى الوراء
أيام كنت متوجا
تحيا نديم الكأس أو خَلِبَ النساء
فى قصرك العاجى تحلم بالجوارى والإماء
فإذا أمرت برقصة
فالكل يرقص بانصياع
وإذا غضبت فقل على الدنيا الفناء
وتسير خلفك نسوة
كقطيع أغنام تباع
أرواحهن
أجسادهن
أرض مشاع
قد خِلْتَ أنك ربهم
تحيى وتفنى من تشاء
أركان عرشك قوضت
وتناثرت عبر الهواء
فلترتحل واترك جوادك فى العراء
ما عدت أنت ولا أنا
يوما سأحيا فى الخفاء)(113)

فهى مواجهة مباشرة لهذا الرجل بعنفه وشراهته وادعائه وتصديقه للأكاذيب الت صاغتها يداه، وقد بدا التماس قويا وإن شئت فقل التأثر بين هذه القصيدة وقصيدة جليلة رضا ( من المرأة إلى الرجل) التى تبدؤها بقولها:
ماذا تريد؟ ماذا تريد؟ يا أيها الرجل العنيد)(114)
ونظن الشاعرتين هنا فلورا وإيمان قد انشغلتا بالفكرة أو القضية النسائية وما يشاع فى عصرنا من مقولات حقوق المرأة والقهر الذكورى عن تأكيد القيم الجمالية فى فن الشعر، فسيد الموقف هنا هو المضمون لا الشكل وإن كان الشعر حسبما يتصور شكلا قبل أن يكون مضمونا.

أخيرا لو تصورن أننا نطلق الشاعرة الهجاءة والشاعر الجاء فى مضمار سباق فأى الفرسين أو أى المهرين يفوز بالسباق؟! لا نريد الدخول فى حيثيل\ات متفرعة من الموازنات الأدبية، لكن نظرة أخرى لما أوردنا من هجائيات كل من الطرفين تشير إلى احتلال المرأة غالبا لمؤخرة السباق، ولا نظننا ندينها لهذا التأخر بل هو شىء من الفضل ينبغى أن يحسب لها؛ فالمرأة سكن للزوج وللأسرة كلها، والمرأة احتواء، والمرأة احتضان، والهجاء هنا على لسانها موجه لمن كان جديرا بالسجود له لإذا سُجد لغير الله، فهؤلاء الهجائات لا تعبرن عن المرأة العربية فى حالاتها الطبيعية، بل تعبير عن بثور فى العلاقات الزوجية بين الرجل والمراة.
حتى إذا خرجنا من إطر القيم الإجتماعية ومفاهيم العرف والدين للبحث فى تدنى مستوى الهجاء النسائى عن مستوى هجاء الرجل، فإننا لابد أن نشير إلى قلة ثقافة المرأة فمن أين لها هذه الثقافة وهى قعيدة بيتها، لا مؤثر فيها ولا انفتاح لها على العالم إلا قليلا أو من خلال رجل، وضمن هذه السطحية أو الضحالة الثقافية فقر العجم اللغوى، وهنالك كذلك لإنقطاعها عن همزة الوصل مع المتلقى عبر الراوى الذى كان يحمل حروف الشعر من على لسان المبدع وهى ساخنة لينقلها إلى عامة الناس فى التجمعات و الأسواق، واحيانا كانت الشاعر نفسه مترددا على هذه الأسواق فأين المرأة من هذا وذاك؟!
ربما يتسأل متساءل عن حالة المرأة فى العصر الحديث وقد انطلقت كل منطلق وجابت الآفاق.. فنقول إن مخلفات ألف عام لا تمحوها نهضة عدة قرون.